سيرة وطن سيرة حياة- الحلقة الثامنة
تاريخ النشر : 2017-05-10 23:30

(4)

أتابع في هذا الحلقة يومياتي عن الفترة التي عشتها في بيروت

الاثنين 28/3/1977

منذ فترة لم أكتب مذكرات أو خواطر، أمور كثيرة حدثت على صعيدي الخاص وعلى الصعيد العام. خلال الأشهر الماضية، جاءت الوالدة ومكثت هنا نحو أكثر من شهرين، كما جاء أخي علي وسافرنا سوياً إلى تونس لحضور المؤتمر العام الثاني لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين. كان من المفروض أن أعرج على باريس، ولكن لم أتمكن من الحصول على تأشيرة، فعدت أدراجي إلى بيروت القاتلة.

أنهيت كتاب "المرأة الفلسطينية والثورة"، وقد يخرج إلى الأسواق خلال شهر. لا أدري ماذا ستكون ردة الفعل.. لا أشعر بارتياح كبير لما أنجزته.. فالكتاب كتبته في أصعب الأوقات، وتحت القذائف.

أهم ما حدث خلال الفترة الماضية اغتيال الزعيم الوطني كمال جنبلاط. حتى الآن لم تعرف الجهة التي قامت بذلك. هناك شكوك بأن سوريا وراء الحادث. الوضع في لبنان لا يزال قلقاً، ولا يُنتظر أن يهدأ من هنا لسنة أو سنة ونصف. اليوم كان إضرابا في بيروت الشرقية؛ احتجاجاً على إقدام سركيس على تعيين قائد جديد للجيش غير موافقة عليه الجبهة اللبنانية. أحداث الجنوب لا تزال كما هي.. والوضع متفجر جداً.

الجمعة 3/6/1977

حزين أنا، حزني أكبر من كل ما في هذا العالم من حزن. منذ أربعة أيام أي يوم 30/5 الماضي، تلقيت الخبر الذي كنت أخشاه وأهرب منه. علمت أن القلب الكبير، قلب الوالدة، قلب أمنا العظيمة، قد توقف عن الخفقات اعتباراً من مساء 16/4/1977. لم أستطع أن أتمالك نفسي وأنا أقرأ الرسالة التي بعثها لي علي، بكيت، كنت في المركز، وكانت الساعة حوالي العاشرة صباحاً.

لم أستوعب الخبر في البداية، شعرت أن عالمي ينهار. منذ أكثر من شهرين كانت الوالدة هنا، كانت مريضة وكنت أخاف عليها.

حزين أنا، كحزن أم، حزين كجدول ماء جف ماؤه أو يكاد.. لماذا ذهبت أيتها الوالدة العظيمة سريعاً.

الثلاثاء 26/7/1977

أعود للكتابة مع إحساس بأنني بحاجة للكتابة بشكل مستمر.. منذ شهرين لم أكتب مقالاً، لم أقرأ بشكل جيد، كنت مشغولاً بالمركز وتبدل أوضاع المركز.

لقد صدر كتابي عن "المرأة الفلسطينية والثورة". ما أثير حوله حتى الآن معقول.. لا أشعر برضا تام نحو الكتاب. كان بالإمكان أن يكون أفضل مما هو بكثير، لو تمتعت بقليل من الصبر، لو راجعته بشكل جيد. إلا أنني آخر الأمر زهقت منه، ودفعت به إإى المطبعة.

منذ أيام قضيت حوالي أسبوع في قبرص، منتدباً من اتحاد الكتاب لحضور ندوة صحفية هناك للتضامن مع قبرص ومن أجل استعادة وحدتها. كان أسبوعاً جيداً، مريحاً ومثيراً. اللقاء مع الزعيم القبرصي مكاريوس كان ممتعا.

الجمعة 29/7/1977

الأيام تمضي كسابقاتها، زيارات مملة، أحاديث مملة، لا جديد، شعور بما يشبه الهزيمة يسود.

السبت 30/7/1977

بدأ اليوم تنفيذ اتفاق شتورا، وأقامت قوات الردع حواجز على مداخل مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة. لم يحدث شيء، كان التنفيذ شكلياً.. وهو كذلك بالفعل. الأوساط اللبنانية اليمينية تتساءل لماذا؟ هكذا وبهذه السرعة توافق المقاومة على تنفيذ الاتفاق كما طرحته السلطة اللبنانية، في حين كانت تعارضه بشدة في السابق؟

الأحد 31/7/1977

لم تكن لدي رغبة أن أستقبل أحداً هذا اليوم، لا أدري لماذا؟ حاولت القراءة، ولكن دون جدوى، لم أقرأ إلا بعض القصص القصيرة لكتاب سوريين.

أفكار شتى انتابتني اليوم.. الوحدة تبعث على التفكير. أفكر أن أكتب بعض القصص أو أكتب رواية.. سخافة... لا أملك القدرة.

الحياة موحشة. وكما تقول الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، تبقى وحيداً ولو حضنتك مئات النساء. الوحدة في داخلنا في أعماقنا... حتى ونحن مع المرأة، نشعر بوحدتنا، لماذا؟! لأننا مستلبون.

الثلاثاء 2/8/1977

في المساء حضرت فيلم هيروشيما حبيبي، من عروض النادي السينمائي العربي. نسبة الحضور كانت عالية. أعجبت بالفيلم وبمخرجه. الفيلم يتحدث عن لقاء بين فتاة باريسية مع ياباني في هيروشيما. الفيلم عبارة عن صورة وحركة وحوار. المخرج كان رائعاً في تصوير عمق العلاقة الإنسانية. دار حوار بعد انتهاء العرض، لكن الحوار لم يكن بمستوى الفيلم ولا بمستوى فكرته.

الاثنين 15/8/1977

هموم كثيرة وقضايا كبيرة وصغيرة، تشغلني وتشغل ربما كل الناس. فانس، وزير الخارجيةالأميركي الجديد والتسوية، مصر والعودة إلى الشريعة كما سماها السادات (دولة الإيمان)، حرب أثيوبيا والصومال، القرن الأفريقي، النفط، اتفاق شتورا، الجنوب، تهديدات إسرائيلية، هموم من كل لون.. أقرأ الجريدة في الصباج، استمع إلى المذياع، العالم كله يغرق في المشاكل. روديسيا، جنوب أفريقيا، انغولا. أفريقيا من جديد منطقة الثورة العالمية... ثم ماذا، وماذا، والإنسان يكاد يضيع.

الأربعاء 7/9/1977

الساعة الآن الواحدة صباحاً. لتوي عدت من سهرة مع محمود درويش، وأدونيس وإلياس خوري وزوجته في بيت توفيق فياض، وكانت حاضرة زوجته وفتاة أخرى زينة. السهرة كانت ممتعة، كانت سهرة لطيفة. الحديث تشعب، ودار حديث عن المرأة وتحررها، والخيانة، ومدلولاتها.تحدثنا وثرثرنا حول هذا الموضوع، وطبعاً مكابرة الرجل كانت هي السائدة... والنساء لم يتدخلن في النقاش إلا لمامًا.

كم هي بالية قيمنا، كم هي تافهة مثلنا، لماذا لا نحب كما نهوى.

بعد ظهر أمس ذهبت لحضور فيلم النادي السينمائي العربي، وكان الفيلم موت في البندقية من إخراج فسكونتي.. الحضور كان كثيفا جداً، والفيلم كان رائعاً، البعض خرج من بداية الفيلم؛ لأنه لم يفهمه. الفيلم لا يعتمد على الحوار، كان أشبه بفيلم صامت، ولكن يعتمد على تصوير الانفعالات الإنسانية، وعلى الرغم من بطء الفيلم الذي كان يبعث على الملل أحياناً، إلا أنه كان رائعاً ومعبراً.

الأحد: 11/9/1977

الخبر السيء اليوم، اعتقال أخي علي في نابلس، بعد عودته للاستقرار في الوطن منذ فترة أشهر. حزنت للخبر، وأجريت بعض الاتصالات للتأكد من صحة الخبر. يبدو أنه معتقل منذ خمسة أو ستة أيام. آمل أن يكون مجرد اعتقال احترازي لمدة أسبوعين لا أكثر. إن استمر الاعتقال سأحاول القيام بحملة إعلامية لصالحه.

الجمعة 23/9/77

نزق، منرفز، متضايق، هذا اليوم. منذ الصباح، منذ أن نهضت من نومي، رأيت العالم ضيقاً، شعرت بكل القهر من هذا العالم القاسي. عالم قاتل.

نهرب إلى الكتابة، ولكن الكتابة تهرب منا... نهرب إلى الثورة، والثورة تكاد تضيع. صرح أبو عمار أمس أنه مستعد للاعتراف بقرار مجلس الأمن 242 إذا صدر قرار جديد يعترف أو يؤكد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وهكذا نغرق في اللعبة الأمريكية، وهكذا نقع في الفخ الأمريكي. أوهام وأباطيل، وفقاعات صابون نركض وراءها... تسوية، لن تكون هناك إلا بما يخدم مصالح أميركا وإسرائيل. إلا بما يمنع هذه الأنظمة المنهارة من أن تنهار، ولكنها تنهار... يحلمون بالدولة، بالركض وراء السراب الأمريكي... واهمون، واهمون، الراكضون وراء السراب سيموتون عطشا... والصحراء تتسع وتمتد، والنفط بحيرة يطفو عليها العالم.

لن يموت هذا الزمن دون ولادة، والولادة قادمة.

أتفاءل وأتشاءم. أتفاءل بالتاريخ، أتشاءم وأنا أعيش اللحظة. اللحظة قاتلة، والزمن قاتل، ونحن بين حجري الرحى... نصرخ، نتأوه، نتألم، والعذابات تكبر وتكبر.

الوطن حلم، الوطن سيرة، نحلم بالوطن ونسير إليه... كم قتلنا هذا الوطن.

هل من نهاية، هل من خاتمة لعالم مجنون، قاسي، قاتل.

حلمت اليوم أنني أنمو وأكبر، حلمت اليوم أنني في الوطن، حلمت أنني إنسان آخر...

في جلودنا عنف الزمن، في جلودنا قسوته، أحياناً نقسو ونكون قساة على أنفسنا، لشد ما أخشى أن ننقل القسوة إلى الآخرين، أن نمارسها على الآخرين.

الجنوب يلتهب، وإسرائيل تعربد، والأمة العربية والحكام العرب يركضون وراء الوهم الأميركي. يركضون وفي جيوبهم النفط. متى يقتلهم النفط؟

ويمر الزمن بطيئاً، سريعاً، والذكريات تغيب أو تضيع وتعود... ولا يبقى لنا من الذكريات إلا لحظات مرة، حلوة، نستجمعها أحياناً، نبددها أحياناً أخرى.

هل الإنسان أقوى من النسيان، وهل النسيان أقوى من الإنسان... هناك أمور لا تنسى، هناك حوادث لا تضيع في زحمة الأحداث... هناك ما يبقى مغروساً في القلب كسكين حاد، نتألم ونتعذب، ومع الألم والعذاب نعيش.

أحياناً نعد الساعات دقيقة دقيقة، ثانية ثانية، وأحياناً نستبطئ الزمن. نرفض أن نعترف بساعاته ودقائقه، نرفض أن نعيش داخل الزمن... نعيش اللحظة، خارج الزمن.

كم من ساعات مرت كلحظة، وكم من لحظات كانت أطول من ساعات، والزمن غول كبير، يأكل، ويقتل، يميت، وقد يحيي أحياناً.

الاثنين 3/10/1977

منذ يومين خرج أخي علي من المعتقل، هكذا جاء في الأخبار. فرحت

أشتاق لعلي، كيف هو الآن، لم أعجب بقصائده الأخيرة، أقل مستوى من قصائده السابقة..

البيان السوفياتي-الأميركي حول التسوية تلاشى سريعا. أميركا تراجعت سريعا بعد تدخل إسرائيلي قوي. الطريق إلى الوطن طويل. نحلم بالوطن، فنقترب إليه، ثم نرى أننا ما زلنا بعيدين. الوطن جميل.. قال لي علي في آخر رسالة منه قبل اعتقاله: الوطن جميل إلى حد البكاء، وأنا أقول: الوطن جميل إلى حد الموت، إلى درجة أنك ترضى أن تموت من أجله.

لا زلت أحلم، وسأظل سأحلم.

العالم يضيق، وأنا أتمدد... أتمدد...

من يخرج فيلاً من ثقب الإبرة... من يدخل جملاً إلى ثقب الإبرة... من يصنع مجداً من أشلاء وجماجم... من يصنع نصراً من هزيمة... إلا المُسبحون بحمد الخليفة.

اليوم أبحث عن الاكتمال، أبحث عن القصيدة. اليوم، أتمدد على فراش مليء بعذابات الفقراء... اليوم أبدأ، لا أبدأ... ولكن لن أنتهي إلا بطلقة... أو قذيفة. اذهبوا أيها المكتحلون بكلمات الخليفة، الطوفان قادم، وسيجرف كل القاذورات.

أبحث عن الله في الأشياء الصغيرة، وأبحث عن العذاب في الأمور الكبيرة... والعذاب دائماً إله يسكن سقف الغرفة.

الاثنين 24/10/1977

بالأمس حضرت فيلم أيام الكوندور الثلاثة، من إخراج سيدني بولاك. الفيلم يتحدث عن عالم المخابرات المركزية الأمريكية. عالم العنف والقسوة، المخرج لم يستطع أن يصور هذا العالم على حقيقته، مجسداً لقطات ومشاهد على الرغم من وجود تفرع من الحبكة الروائية... المخرج كان يود أن يقول أشياء... ولكن كان متردداً... يبقى الفيلم لا بأس به.

الاثنين 7/11/1977

الساعة الآن العاشرة والنصف مساءً. منذ الساعة السادسة وأنا جالس وحدي. أفكر في كل شيء وفي لا شيء. أفكار شتى رادوت ذهني، ولكني لم أستطع التركيز على شيء. حاولت قراءة مسرحية لآرثر ميلر، ولكن الأفكار كانت تهرب مني. كنت غير قادر على التركيز، حاولت أن أنتبه للتلفزيون، ولكن دون جدوى. أفكر في كل شيء، وفي لا شيء. لا أعرف ماذا أريد... منذ يومين أنهيت قراءة مسرحية الملك لير ومنذ شهرين حضرت فيلماً عن هاملت... أشعر أنني أقرأ شكسبير من جديد، لقد قرأته سابقاً ولكن دون تركيز... الآن أكتشف أموراً كثيرة... عالم شكسبير عالم معقد، عالم ضايع... لماذا لا تكون الحياة بسيطة؟ لماذا تكون الحياة مليئة بالحقد والخبث والأنانية؟ لماذا الحياة معقدة بهذا الشكل... أبحث عن البساطة، عن الهدوء... ولكن لا بساطة ولا هدوء... الأبواب مغلقة، والنوافذ موصدة، والأيام قاسية، لا أدري لماذا أنا هكذا... هل الحياة مجرد عبث.

لماذا يتراكض الناس إلى المال، لماذا يتفانى كثيرون في خدمة القضية، حتى ولو كانوا خاسرين؟ الحياة صراع، وماذا أريد؟ هناك ما أصارعه ومن أصارعه؟ لماذا أصارع؟ حالة من العبث، لماذا الحياة صعبة ومعقدة بهذا الشكل؟ لماذا يجب علينا أن نكون خبثاء حتى نواجه الحياة بكل تعقيداتها؟ هل يجب أن نعيش في عذاب حتى نبدع؟ دائماً أعيش في صراع. منذ صغري منذ طفولتي وأنا أصارع وأنا أقاتل،

 

الثلاثاء 15/11/1977

الدهشة، الدهشة، إنه زمن الدهشة فعلاً، ونحن المدهوشون. ما يجري أكثر من انجراف، أكثر من انزلاق سريع على المنحدر.. إنه خيانة..الرئيس المصري أنور السادات يعلن أمام مجلس الشعب أنه مستعد للذهاب إلى الكنيست إلى إسرائيل، وبيغن يرحب بالإعلان ويوجه الدعوة.. ظن البعض في البداية أنها هفوة لسان من السادات الراكض وراء سراب السلام! ولكن تأكد أنها ليست هفوة، بل كلمة متفق عليها.. ومنذ هذا الإعلان الساداتي ولا حديث إلا عن ترتيبات الزيارة، وتشير أنباء اليوم إلى أن الزيارة قد تتم قريباً، وقريباً جداً.. إنه زمن الذل فعلاً.. من كان يصدق، من كان يتنبا بذلك. حق أن نسأل ماذا يجري.. نكاد لا نميز الأشياء ونحن محاصرون بالدهشة.. السادات يعلن أنه حل مسألة التمثيل الفلسطيني في مؤتمر جنيف بأن أقترح أن يمثل الشعب الفلسطيني بروفيسور أميركي من أصل فلسطيني؟! وهكذا تنتهي العقدة.. من المسكين نحن أم السادات.

السادات وعرب آخرون على شاكلته راكضون لاهثون وراء سراب السلام.. وإسرائيل تزداد تعنتاً وصلفاً.. بيجن يعلن بالقلم العريض واللسان الواضح الصريح لا انسحاب من الضفة الغربية.. أكثر ما يمكن الموافقة عليه هو تقاسم وظيفي بين الأردن وإسرائيل والعرب.. "القادة الكبار" راكضون وراء بيغن.. راكضون وراء السراب.. على ما يبدو أن لا خيار لهم. لا خيار لهم إلا أن يظلوا في أوحالهم. ومن تمرغ في الخيانة، يجد أن الخيانة لم تعد خيانة.

السبت 19/11/1977

اليوم وصل السادات إلى القدس الساعة الثامنة مساء، وصل وكان في استقباله كاتسير ومناحيم بيغن، وكل المسؤولين الإسرائيليين.. وهكذا كان. أول رئيس عربي يصل إلى إسرائيل في وقت لازالت فيه إسرائيل ترفض إي دعوة للسلام حتى ضمن الحدود الدنيا الممكنة للموقف العربي.. كنت أسمع الإذاعة، وأراقب التلفزيون هذه الليلة.. السادات عانق غولدامير، وكان يتحدث مع معظم مستقبليه.. كان يبدو عليه عدم الارتياح وهو يقف مستعداً بينما تعزف فرقة من الجيش الإسرائيلي النشيد الإسرائيلي "الأمل".

مشاعر من الغضب اجتاحتني طيلة هذا اليوم.

الأحد 20/11/1977

الساعة الرابعة بعد ظهر هذا اليوم ألقى السادات خطاباً في الكنيست الإسرائيلي وسط مظاهر احتفال واحتياطات أمنية لم يسبق لهما مثيل، وتبعه مباشرة بيغن، ثم شمعون بيرس. ومن الخطابات المتبادلة لا يبدو أن السادات حقق شيئاً من زيارته. لقد ركز السادات في خطابه على أنه قام بهذه الزيارة على الرغم مما واجهه من معارضة، وتودد إلى الإسرائيليين مؤكداً أهمية السلام لهم، وداعياً لاغتنام هذه الفرصة التاريخية، وقدم مشروعاً باقتراحات محددة تؤدي إلى توقيع اتفاق سلام عربي- إسرائيلي. أما بيغن، فلم يقدم شيئاً باستثناء الدعوة إلى مباحثات أو مفاوضات عربية- إسرائيلية، تُبحث فيها الأمور، ولم يأتِ على ذكر الفلسطينيين. ودعا إلى عقد معاهدات سلام عربية-إسرائيلية، وقيام علاقات دبلوماسية، والتعاون في التطور الاقتصادي للاستفادة من "العبقرية اليهودية" والثروة العربية وأكد ان هذه الأرض هي أرض إسرائيلية. رابين لم يطرح شيئاً محدداً ودعا إلى اغتنام هذه المبادرة، وأشار إلى إمكان الوصول إلى اتفاقات جزئية.

هل تلخص هذه الخطابات الحدود الممكن الوصول إليها من خلال هذه الزيارة؟ أم أن المحادثات التي ستجري الليلة وغداً ستوضح بعض الأمور؟

الأربعاء 23/11/1977

مساء اليوم التقيت العقيد أبو موسى والمقدم أبو خالد العملة (قيادات عسكرية من حركة فتح) وحضر الدكتور الياس شوفاني، جرى حديث عن الوضع.. لا يبدو أن هناك تفاؤلاً، وهناك تخوف من الموقف السوري.. اليوم حضر إلى بيروت ناجي جميل، (المبعوث السوري) واجتمع إلى الر.ئيس اللبناني سركيس، وحضر ياسر عرفات ساعة من الاجتماع.

خطوة السادات قد تكون مجرد لحظة عابرة في التاريخ، أو قد تكون خطوة تتكرس في التاريخ العربي.. وعندها أو إذا تم ذلك، فإن التاريخ عن هذه المرحلة لن يكون مشرفاً أبداً.

السبت 26/11/1977

الأحداث تتسارع، اليوم ألقى السادات خطاباً أمام مجلس الشعب المصري. أعلن فيه دعوة مصر أطراف النزاع –باستثناء المنظمة التي دعيت لبعث وفد للتشاور حول التمثيل الفلسطيني في المؤتمر، للحضور إلى القاهرة يوم السبت القادم. إسرائيل وافقت، وسوريا عارضت، ومن المتوقع أن يرفض أيضاً الاتحاد السوفياتي. والتقدير أن الأميركان والأردن سيلبيان الدعوة . وهكذا يمشي مخطط السادات والذي قد يشمل ضم الأردن وبعض العملاء من الضفة الغربية وقطاع غزة لعقد صفقة شاملة مع إسرائيل تكون سوريا والمنظمة خارجها.

حجم ردود الفعل حتى الآن ليس كبيراً، والعراق لا يبدو أنه على استعداد للمشاركة في جبهة الصمود، محاولات تجري لكي يكون العراق أكثر مرونة. يوم الخميس القادم حدد لعقد قمة الصمود في طرابلس –ليبيا

إنها فترة حرجة وخطيرة في تاريخنا، نضالات ما يزيد على ثلاثين عاماً لن تذهب هكذا؛ لأن مهرجاً ظهر في السماء العربية. صمود الأمم وانهيارها ليس بهذه البساطة.

الثلاثاء 20/12/1977

لقد انتهى مؤتمر طرابلس لفصائل المقاومة الفلسطينية بموقف معقول، وحدة وطنية فلسطينية، وموقف عربي لمواجهة خطوة السادات. عدم انضمام العراق إلى جبهة الصمود التي تقرر تشكيلها من بعض الأنظمة العربية ردا على على خطوة السادات الخيانية بزيارة إسرائيل، يشكل مقتلاً لهذه الجبهة، وهناك شك في أن تنجح الضغوط كي يشارك العراق في هذه الجبهة.

أفكر وأتأمل،. أشعر أحياناً أن هناك الكثير الكثير ما يجب كتابته، أمور صغيرة. ملاحظات صغيرة يشاهدها الإنسان، ولكن ما أن أحمل القلم لأكتب، حتى تغيب هذه الصور الصغيرة، ويرتسم أمامي، حياتي كقلق يومي، والوضع السياسي.. حتى لغتي لا أحاول أن أتقنها، أتركها هكذا.

في المساء ذهبت لحضور فيلم إيطالي من عروض النادي السينمائي العربي، وكالعادة التقيت هناك بالعديد من المعارف والأصدقاء. فالذين يحضرون هذه العروض دائما هم، لا يتغيرون.

الفيلم كان جيداً، يدور حول مفوض للبوليس، يقتل عشيقته، ويترك كثيراً من الدلائل التي تدل عليه؛ لكي يهزأ بالبوليس. ينتهي الفيلم باعتراف القاتل، ورفض هذا الاعتراف من ممثلي السلطة. الفيلم يكشف عن واقع أي سلطة قمعية: تركيبة هذه السلطة، ونوعية الذين يعملون في هذه الأجهزة.

لم أكد أعود إلى البيت حتى حضر الدكتور سمير"غوشه"، دار حديث حول مؤتمر طرابلس والوضع السياسي.

الأربعاء 21/12/1977

المفاجآت السياسية تتوالى، أمس كان الوزير الإسرائيلي عازر فايتسمان في الاسكندرية، حيث التقى محمد الجمسي، رئيس أركان الجيش المصري. بحث الاثنان تفاصيل معاهدة مصرية-إسرائيلية من حيث الانسحابات والحدود.. الأحد سيكون رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن في الاسماعيلية، وهكذا تتوالى الأحداث. وجبهة المواجهة لا تزال تراوح مكانها.

اليوم زارني يوري من السفارة السوفياتية، وكان قد مر قبل ذلك. يعد بحثا عن الوضع في الضفة الغربية، عن رؤساء البلديات، ودور المجالس البلدية في الحياة السياسية والاجتماعية هناك. معلوماته قليلة إلى حد ما، إلا أنه يتمتع بذكاء لا بأس به.. حاولت أن استكشف منه أهداف هذا الاهتمام.. تقديري أن السوفييت يدرسون احتمالات نجاح السادات- حسين في تشكيل قوى سياسية مؤيدة لهم في الأراضي المحتلة.

لا جديد اليوم.. كنت مشغولاً طيلة اليوم في إعداد ملف الموقف الفلسطيني من زيارة السادات.

الاثنين 27/12/1977

اليوم كان جميلاً، مشمسا،ً جلست في الشمس على البلكونة، قرأت اوديب ونيسيوس لاندريه جيد، ترجمة طه حسين. قراءتها كانت ممتعة.

اليوم أنهى مناحيم بيغن زيارته لمصر.. ويبدو من المؤتمر الصحفي الذي عقده بيغن والسادات، أن نتائج اللقاء لم تكن كما توقع كثيرون. فالسادات أعلن أنه تم تقدم بصدد الانسحاب، وأن هناك خلافات بصدد المسألة الفلسطينية.

التقدير أن السادات ماضٍ إلى النهاية، وأنه سيضم الأردن إليه مع بعض الفلسطينيين في مرحلة قادمة. سوريا لا يبدو أن أمامها مجالاً للتراجع؛ فالمسألة لم تعد مسألة أراض فقط، بل أيضاً مسألة توزيع أدوار.. هل قوى المواجهة، بمستوى حجم المواجهة وحجم التصدي؟ هذا ما لا أستطيع أن أجزم به.

الأربعاء 28/12/77

أتساءل أحياناً عن السعادة، سعادة الإنسان، هل من سعادة؟ السعادة لحظات يعيشها الإنسان عندما ينجز شيئاً، السعادة هي الاندفاع بالطموح، السعادة هي استمرار حيوية الإنسان.. أن ينتج، أن يحقق شيئاً.. دون ذلك لا سعادة أبداً.. السعادة ليست الراحة أبداً.

كان الطقس مشمساً، خرجت بنزهة جهة البحر، كان منظر البحر رائعاً، بمياهه الصافية الزرقاء، أشعة الشمس كانت كخيوط فوق صفحة المياة الممتدة، وكأنها اللانهاية. البحر يجذبني دائماً، يسحرني، يشدني، ما شعرت برهبة من البحر يوماً. أتمنى لو كنت بحاراً أجوب العالم، أتصارع مع الموج، الحياة مغامرة. الحياة الرتيبة مملة قاتلة.

وأنا اقف على الإشارة اليوم، أحزنني جداً منظر فتاة تستعطي، أكره جداً أن أرى إنساناً يستعطي، ونادراً ما قدمت شيئاً لمن يستعطي، لأنني أكره ذلك، ولكن منظر الفتاة بثيابها الرثة والمبللة، واقفة تحت المطر تستعطي، أذهلني وأحزنني جداً. حاولت أن أقدم لها بعض النقود، مددت يدي إلى جيبي، لم أستطع أن أسحب النقود بسرعة، تغيرت الإشارة إلى خضراء كنت منهمكاً في أخراج النقود من جيبي، لم أنتبه للإشارة. زمامير السيارات انطلقت تسحثني على السير. ارتبكت، أسرعت وقدت السيارة دون أن أقدم للفتاة شيئاً، يدها الممدودة بثيابها المبللة ونظراتها الحزينة جداً في ذاكرتي، من الصعب أن أمحو هذه الصورة.

ربما كانت تحلم بليرة، ذهب حلمها مع تغير الإشارة. كم هي الحياة مذهلة وقاتلة. أمور صغيرة، وصغيرة جداً تكشف كم في هذه الدنيا من عذاب، وكم فيها معذبون.

ومن أيام أيضاً، كنت واقفاً بسيارتي بانتظار الإشارة. الصِبية الذين يقفون دائماً على إشارات الوقوف يمسحون زجاج السيارة الأمامي، أحدهم مسح زجاج سيارة لسيدة وناولته ليرة. كم كانت فرحته عظيمة، حمل الليرة وكأنه غير مصدق. أشار لصديقه ملوحاً بالليرة أمامه وهو يضحك.

أمور صغيرة تُفرح، لا تساوي شيئاً، ولكنها تبعث الفرح في حياة البائسين.

بالأمس حضرت عرض النادي السينمائي العربي، كان فيلم "الأزمنة الحديثة" لشارلي شابلن. عرض بمناسبة وفاته أول أمس. الفيلم كان صرخة ضد الرأسمالية واستبدادها. شابلن من أكثر عباقرة هذا العصر في فهم النفس البشرية والتعبير عنها. إنه فيلسوف الفقراء.

29/1/1978

الأيام تمضي مسرعة، أحس بثقلها كتفاصيل، كحياة يومية، أما كزمن، كتاريخ، فإنها تمضي مسرعة، مخلقة وراءها الكثير من الأسى والحزن، والقليل القليل من الفرح.

منذ فترة ليست قصيرة وأنا استعيد قراءاتي الأدبية، أكثف هذه القراءات، قرأت بشكل معقول، أحاول أن أستعيد من خلال هذه القراءات بعض طموحي الأدبي، الذي لازمني وأنا في نهاية دراستي الثانوية وبداية دراستي الجامعية..

بذهني أكثر من مشروع أدبي، سأحاول أن أفرغ نفسي خلال الفترة القادمة للبدء ببعضها.

الجمعة 3/2/1978

أسئلة تحاصرني كل ليلة. الليل أجمع للذاكرة، وأصفى للذهن، وكل ليلة أخلو لوحدي. أتأمل، وأحياناً، أقضي ساعات في التأمل، تحاصرني كل الأسئلة الكبيرة، عن الكون، عن الحياة، عن الوجود، عن فلسفة الوجود. قرأت. كامو منذ زمن ولكن لم أتأثر به، قرأت ألبرتومورافيا منذ سنوات بعيدة منذ كنت طالباً في الجامعة، ولكن لم أتأثر به. كانت القضية تشدني إلى الحياة، تشدني إلى المستقبل.أكتب والكتابة ليست كلمات. الكتابة حياة، وكل الذين يكتبون بصدق يتعذبون ويتألمون. منذ فترة قرأت حياة السياب، تأثرت جداً. كم تألم وكم تعذب، وكان مبدعاً. كانت عذاباته تتفجر كثيراً من خلال الكلمات. لم يلقَ الرعاية في بلده، ومنذ أيام قرأت كلمات البيات "الشاعر العراقي عبد الوهاب البيات" عنه بمناسبة ذكرى وفاته. كانت كلماته تقطر سماً ومشبعة بالأنانية.

الحياة صراع، وكم من الأحلام تتحطم عندما تتحول إلى تفاصيل يومية. إلى حياة يومية. الوطن يشدني، ولكن أنظر حولي فأرى اللصوص والتجار الذين يكبرون باسم الوطن. أكاد أكره الوطن لأجلهم. مرة قلت ربما خير لنا أن لا تكون لنا دولة، لأنها ستكون أسوأ دولة بظل وجود هؤلاء الناس الذين يتربعون الآن على قمة الثورة.

الاثنين 6/2/1978

أمس كان يوماً رائعاً وجميلاً، وحيث كنت وبعض الأصدقاء نجلس نستمتع بدفء الشمس، كان يجلس مجموعة من السعوديين معهم بنات وشباب لبنانيون، يغنون ويرقصون.. كان منظرا مؤذيا، السعوديون هم الأمراء والآخرون خدم. السعودي يريد والآخرون يقومون بالخدمة.. الكل في خدمتهم. وتجمع ناس كثيرون حولهم. ريالات النفط كانت تنثر على الوجوه فتعمي الأبصار وتجعل أجساد الفتيات ترتعش ولكن بدون نشوة.. البنات كن يرقصن ويغنين لريالات النفط، والأجساد كانت تتمايل بدون حياة. كم هي مؤلمة هذه الحياة.

الثلاثاء 5/9/1978

منذ أشهر لم أكتب ولا كلمة. سافرت إلى كوبا لحضور مهرجان الشبيية والطلبة العالمي. بقيت في كوبا ثلاثة أسابيع. شعرت بالفرح لوجودي في كوبا، واطلاعي على الانجازات التي حققتها الثورة. كم هو عظيم الإنسان الكوبي، يعيش الفرح، ويعمل بفرح، ويناضل بفرح. الثورة صنعت من الكوبي إنساناً جديداً. هناك الكثير مما يجب الكتابة عنه. منذ عودتي من كوبا أحاول أن أعوّد نفسي على الكتابة، ولا سيما بعد النغييرات التي حدثت في مركز الأبحاث. لقد تركت الإدارة وتفرغت للبحث. أعد الآن لكتاب حول تكوين الشخصية الوطنية الفلسطينية، لا أملك إلا فكرة عامة عن الموضوع، سأحاول إنجازه خلال سنة أو سنة ونصف على الأكثر. سأبذل كل جهدي لكي أكون راضياً عن الكتاب. الموضوع يشدني، وأعتقد أنني من خلاله سأطرح أفكاراً أساسية أريد طرحها.

الجمعة 6/10/1978

مرة أخرى نعود لنعيش على ضوء الشمعة وضوء القنديل. مرة أخرى نعود لنعيش رعب القذائف العمياء، وأجواء الحرب غير المعقولة. مرة أخرى نعود إلى الرعب وانتظار المجهول.

منذ أسبوع اندلعت الحرب بين القوات اللبنانية اليمينية والقوات السورية. وقد بلغت هذه الحرب أشدها خلال الأيام الأربعة الماضية. آلاف القذائف تساقطت على مناطق الانعزاليين في بيروت والجبل وكسروان والمتن. الأشرفية دمرت تدميراً شبه كامل، بكفيا، برمانا، بولونيا، ظهور الشوير، مسرح للقذائف التي تتساقط بكثافة. لا تقدم ولا قتال مواجهة، مجرد تراشق مدفعي. بيروت الغربية كان لها نصيبها من القذائف الانعزالية، ولكن ليس بكثافة. الرعب يسيطر على الجميع. لا ماء، لا كهرباء.. وانتظار قاتل. الوضع في المناطق الانعزالية أقسى وأشد.. بيروت الشرقية محاصرة، القوات السورية تسيطر على جميع المداخل. واليوم دعت أميركا إلى اجتماع عاجل لمجلس الأمن.. ولا أحد يدري ماذا يجري، وماذا يمكن أن يجري.. هل هي البداية لوضع اتفاقيات كامب ديفيد موضع التنفيذ؟

لبنان الآن أرض تلتقي عليه كل القوى وتتكاثف فيه كل الصراعات. وعلى أرضه تجري تصفية كل الحسابات.

بالأمس شعرت برهبة وأنا أقود سيارتي وسط الظلام ووسط الزجاج المتناثر والحجارة المتناثرة بين القذائف. أصوات القذائف المنطلقة تبعث على الرعب وتثير الوحشة والرهبة. كانت الزوارق الإسرائيلية تقصف بيروت الغربية، وسرت إشاعات أن إنزالاً إسرائيلياً من جهة الروشه، وارتعبت الناس، وهرب كثيرون مذعورون، ثم هدأت الحالة.

أي أطفال سينشأون بعد هذه الأيام المرعبة.. أي طفولة تلك التي تنام وتصحو على صوت القذائف، وتعيش الرعب لحظة بلحظة.

الثلاثاء 10/10/1978

منذ فترة بدأت التزامي مع الجبهة الديمقراطية لحرير فلسطين، ولكني لا أجد الطموح. لا أجد الحماس.

الوضع السياسي لا يبعث على التفاؤل، السوريون سينسحبون من بيروت الشرقية، وستعود الأمور إلى ما كانت عليه في أوائل العام 1976. وقد تسير من أسوأ إلى أسوأ... محظوظ هذه الليلة، الكهرباء موجودة. من كان يتصور أن السوريين الذين أخرجونا من مواقعنا في العام 1976، سيفرضون علينا العودة إلى بعض المواقع. لقد دخلت قوات من جيش التحرير الفلسطيني إلى لبنان، وتمركزت على خطوط التماس في منطقة الفنادق، الآتي لا يبشر بالخير، وموازين القوى المحلية ليست لصالحنا.

التلفزيون يتحدث الآن عن جبرا إبراهيم جبرا. لقد قرأت بعضاً من كتاباته وترجماته. روايته الأخيرة بحثاً عن وليد مسعود. لم أكملها بعد، إنها جنبي على السرير.. أنا معجب بلغة هذا الإنسان، ولا سيما ترجماته من الإنجليزية، وبشكل خاص ترجماته لشكسبير. لقد قرأت لجبرا السفينة، ولم أعجب بها. ولكن رواية "بحث عن وليد مسعود"، تشدني، إنني أرى في شخصيتها الرئيسية شبهاً بحالي.

لقد قدمت إلى بيروت منذ أكثر من أربع سنوات. لقد قدمت منذ 18/11/1973، ولم أكن أتصور أنني سأمكث هذه المدة الطويلة في بيروت، أي بعد شهر ونيف سأحتفل بالعام الخامس لوجودي في بيروت.

الاثنين 30/10/1978

اليوم قدمت استقالتي من مركز الأبحاث، وقد قبل صبري جريس(مدير عام المركز الجديد بعد استقالة محمود درويش) الاستقالة فوراً، ثم عاد وتحدث معي على أمل أن أتراجع عن الاستقالة وأن يسحب قبوله لها. ولكن سبق السيف العذل. محمود درويش فاجاني باستقالته وترشيح جريس خلفاله، وكان من الصعب التفاهم مع جريس لاعتبارات كثيرة. لقد أرفقت الاستقالة بمذكرة إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ومن المحتمل أن تأخذ المذكرة أبعادها، وأن تكون مقدمة لبحث الوضع في المركز، ومؤسسات البحث الأخرى.

هل يمكن القول أن مرحلة من حياتي انتهت، لأبدأ مرحلة جديدة. لقد مر على وجودي في المركز أكثر من أربع سنوات. لم أكن متردداً في تقديم الاستقالة؛ لأنني كنت قد اتخذت قراري منذ فترة، بعد أن انتميت إلى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.

لا أستطيع أن أتكهن منذ الآن كيف ستسير الأمور، لا شك أنني في البداية أحتاج لفترة من الوقت لأتكيف مع حياتي الجديدة، التي ستختلف شيئاً عن حياتي خلال السنوات الأربع الماضية. مادياً سأشعر بضيق، لن أستطيع التحكم بوقتي، إضافة إلى نمط الحياة الذي سأعيشه.

وها أنذا أعود مرة أخرى إلى أجوائي الرفاقية. ربما عملي في لجنة الفروع الخارجية يوفر هذه الأجواء لأتمكن من أن أواجه مرحلة الانتقال من حياة لأخرى بدون هزات. في الحقيقة لست أدري.

لقد بدأت العمل مسؤولا عن مظمات الجبهة الديمقراطية في البلدان العربية وغيرها التي تضم جاليات فلسطينية في لجنة الفروع الخارجية، وهي من أوسع الدوائر وأكثرها شغلاً، وأهمها أيضاً. سأحاول أن أغطس خلال الشهرين القادمين لمعرفة وضع الفروع. أيضاً سأضع برنامجاً لعملي اليومي، بما يجعلني قادراً على تنظيم وقتي والاستفادة منه بشكل جيد.

الثلاثاء 7/11/1978

لقد تركت المركز منذ أكثر من أسبوع، وبدأت أعيش حياتي الجديدة... لا أشعر بجديد طرأ على حياتي. العمل مكتبي، حتى الآن لم أشعر بدماء جديدة تسري في عروقي.

الأحد 12/11/1978.

حتى الآن، ومنذ بدأت العمل في لجنة الفروع، لا أشعر بالارتياح. الجو في اللجنة لا يبدو مشجعاً ولا يبعث على الحماس. الوضع في اللجنة لا يسمح بتفاعلي مع الآخرين. أبو سليمان شخص لا يمكن التفاعل معه. ذهنه محدود وأفقه ضيق. فايز له مشاكله وعقده، وفهد أمين اللجنة ليس من السهل التفاعل معه وسبر غوره؛ بيروقراطي، وستاليني. يبقى محسن بطفوليته، ومحمد الذي لم أعرفه بعد بما فيه الكفاية، ولكن على ما يبدو لي أنهما هما الوحيدان اللذان يمكن التفاعل معهما.

شاهدت الليلة مسرحية ميس الريم للأخوين رحباني وغناء فيروز من التلفزيون... أغاني فيروز دائماً تعيدني إلى البعيد، وتشدني إلى أحلامي. صوت فيروز يشد الإنسان ويبعث في نفسه الكثير من الأحلام. دائماً فيروز تجعلني أذهب معها إلى البعيد، إلى الجبل وإلى الثلج والعصفور.

تابعت اليوم قراءة أطروحة د. بيان الحوت عن منظمات الشباب في فلسطين قبل العام 1948، لا جديد في الأطروحة مجرد سرد للمعلومات دون منهج.

غداً سأحاول أن أكتب عن الوضع السياسي ورؤيتي للأحداث.

25/11/1978

منذ أيام كنت في الإمارات بعد مقتل الرفيق أحمد السردي (شجار شخصي) ذهبت لترتيب إحضار الجثمان. قَضيت أياماً عصيبة إلى حد ما. لم أر أخي محمد وزوجته نوال في دبي إلا لبضعة دقائق. كان الوقت ضيقاً. كادوا يعتقلوني في أبو ظبي، احتجزوني لبعض الوقت، ثم اعتذروا. لم أتمكن من مرافقة الجثمان، وعدت في اليوم التالي.

حياتي الجديدة مملة. أذهب صباحاً إلى المكتب، أتابع بعض الأعمال، أذهب إلى الغداء، أعود إلى البيت لساعة أو أقل، ثم أعود إلى المكتب حتى التاسعة أو أكثر، ثم أعود إلى البيت. أحياناً أقضي اليوم ولا أرى أحداً. لا أشعر بحماس لاستمراري في الموقع الذي أعمل به.

الأحد 31/12/1978

الساعة الآن الخامسة و35 دقيقة. ساعات وينتهي عام، ليبدأ عام جديد، ساعات وتكون الأرض –كوكبنا- قد أتمت دورة كاملة حول الشمس.

وهكذا الحياة تدور، وتمضي السنون ولا ندري. يفاجئنا الكبر، ولا نشعر بوطأته إلا عندما نحاول أن نمارس كوننا لا نزال شباباً في مقتبل العمر.

وتمضي الأيام، والحزن يكبر، والمأساة تكبر، ولكن الحلم لا يتحطم، الحلم يعيش معنا، ونعيش به.

أقرأ في هذه الأيام ناظم حكمت، وبابلو نيرودا. وكان ناظم معي في سجني مع عذاباتي، وبابلو كان معي دائماً.

ومع نهاية العام، تقبر الملايين في إيران أكثر الأنظمة رجعية في هذا العصر، لتستقبل وضعاً مضطرباً، ولكنه اضطراب المخاض. والسؤال هل ستولد إيران ديموقراطية بعد هذا العراك الدامي والطويل؟ الإجابة على هذا السؤال ستؤثر ليس على إيران ولكن على كل الوضع في المنطقة.

30/6/1979

بعد انقطاع طويل عن الكتابة، بما في ذلك التسجيل في دفتر يومياتي، سأحاول من الآن فصاعداً أن أستعيد نفسي بشيء من المطالعة الجادة والكتابة الجادة. خلال الأسبوعين القادميين سأكون مشغولاً جداً بمجلس منظمات الدائرة العربية، ولكن من الآن فصاعداً سأعمل على أن أفرغ بعض الوقت للمطالعة والكتابة.

أحوالي العاطفية لا جديد بمعنى الجديد. منذ فترة تعرفت على فتاة بدا لي أنها جيدة، ولكن لم تتح لي الظروف لتمتين علاقتي معها. خرجنا معاً عدة مرات خلال الشهر، سافرت، ثم عادت وسافرت، لم أتابع الأمر. بدأت متحمساً في البداية، وكانت المبادرة للقاء، ربما نلتقي مرة أخرى، لست أدري.

سياسياً، الأمور سيئة، والوضع مقبل على تطورات.. الوضع العربي لا يبشر بأي خير. لا أشعر بتفاعل مع نشاطي الحالي.

الثلاثاء 1/1/1980

ليلة أمس ودعنا عاماً واستقبلنا آخر. أمس ودعنا العقد السابع من القرن العشرين، واستقبلنا العقد الثامن. وسؤال يتردد: هل سيكون هذا العقد البداية في رسو السفينة الفلسطينية على أرض؟ هل سيشهد هذا العقد ولادة الدولة الفلسطينية، وبالتالي تكون البداية لمسيرة جديدة ومشكلات من نوع آخر؟

كان هذا العقد قاسياً علينا، على الرغم مما أنجزناه. بداياته كانت مذبحة المقاومة في الأردن، ثم الانكفاء والانحسار، والانفلات من هذا الحصار وخاصة بعد حرب تشرين، ثم الهجوم الدبلوماسي، وبداية الصعود الوطني الفلسطيني عربياً ودولياً، ثم حرب لبنان التي لا تزال مستمرة بأشكال أخرى.

في العقد الماضي ودع العالم بعضاً من الشخصيات التي طبعت هذا العقد بطابعها. ماو في الصين، فرانكو في اسبانيا، الديكتاتور سيلازار في البرتغال، عيدي أمين، بوكاسا، ديغول.

وفي العقد الماضي حققت الشعوب انتصارات رائعة في أكثر من بلد: فيتنام، كمبوديا، أفغانستان، نيكاراغوا، أنغولا، أثيوبيا... إيران.

لقد كان العقد الماضي البدايات، وهذا العقد استكمال هذه البدايات ورسم المسارات المحددة لها.

العالم يستقبل الثمانينيات، وأمامه أكثر من بؤرة انفجار. إيران وكيف ستتجه فيها الأحداث؟ الأوضاع في القرن الأفريقي ومناطق النفط.، وصراعنا الأبدي، على ما يبدو، مع إسرائيل، فهل لهذا الصراع من نهاية؟ لست أدري.