رسالة إلى ترمب: إذا كان التهجير حبرًا على ورق، ففلسطين حبرها من دماء الصامدين

تابعنا على:   16:54 2025-02-04

محمود جودت محمود قبها

أمد/ إن التاريخ لا يُكتب بالحبر وحده؛ بل يُسطَّر أحيانًا بِدماء الأبرياء، أولئك الذين يُقتلعون من ديارهم ويُشرَّدون بِقرارات جائرة تُكتب على الورق، وكأنها لا تمسُّ أرواحًا ولا تُفتت أوطانًا، ولعلَّ من أغرب التَّناقضات، أن تدعو أنت، يا سيادة الرئيس الأمريكي، يا من لا يَعرف العدل؛ إلى ترحيل اللاجئين من أمريكا إلى أوطانهم الأصلية، بينما تُطالب الفلسطينيين، أصحاب الأرض؛ بِتَرك وطنهم لِيُصبحوا لاجئين في دولٍ أخرى!

 

إن هذه الدعوة ليست إلا وقاحةً سياسيةً تُضاف إلى سِجل السياسات الأمريكية المُنحازة، فالشعب الفلسطيني لم يكن يومًا مُهاجرًا غير شرعي في أرضه؛ بل هو صاحب حقٍّ تاريخيٍّ وقانونيٍّ وثقافيٍّ راسخ، والشرعية الدولية التي تَتَشدَّق بها الولايات المتحدة تَرفض ما تَطرحه من تَهجيرٍ قسريٍّ مُمنهج، إن إعلانك السَّافر بِشأن تَهجير الفلسطينيين من غزة، لا يَختلف في جوهره عن نكبة 1948م ونكسة 1967م، حيث مُورست أبشع صور التَّطهير العرقي بِحق هذا الشعب الذي لم يَزل مُتشبثًا بِوطنه كأشجار الزيتون في سهول فلسطين.

 

يا زعيم الوهم، إن جهودكم المُعلنة لإرساء السَّلام في فلسطين قد نالت صدى واسعًا في أرجاء العالم العربي والإسلامي، لكنها اليوم تُستدعى لِتَتَوافق مع مَبادئ العدالة والشرعية الدولية التي يكرسها القانون الدولي الإنساني، كما يَتجلّى في اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949م وميثاق الأمم المتحدة والقرارات الدولية العديدة، إذ تَنص المَادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة على أنه "يحظر النقل الجبري الفردي أو الجماعي للأشخاص المَحميين، أو نفيهم من الأراضي المُحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضٍ أخرى، أيًّا كانت دواعيه"؛ ما يَجعل مثل هذه الأعمال جريمة حرب بِمُوجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وفي هذا السياق، تَتَعارض تَصريحاتكم المُتكررة بِشأن تَهجير الفلسطينيين مع القرار (194) الصادر عام 1948م عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي يكفل حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة واسترداد حقوقهم وتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم؛ فإذ تدعون اللاجئين في أمريكا للعودة إلى أوطانهم، فهل ستتضمَّن سياساتكم مَنح الفلسطينيين حق العودة إلى ديارهم في حيفا ويافا وصفد واللد، أم أن رؤيتكم تَقتصر على مَنظور يَتَجاهل الحق التاريخي للشعب الفلسطيني؟! ومن مُنطلق هذا المَوقف؛ أرى- بِكل احترام- أن السَّبيل لِتَحقيق سلام عادِل ودائم يكمن في تَمكين الشعب الفلسطيني من تَقرير مَصيره وإقامة دولته المُستقلة، تَماشيًا مع قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (181) و(194)، وقرارات مَجلس الأمن (242) و(338)، ومع اعتراف (149) دولة بدولة فلسطين؛ فإن دعوتنا المُوجهة إليكم هي أن تَجعلوا من بِلادكم الداعم رقم (150) في سِجل العدالة الدولية، لِتكونوا بِذلك شركاء حقيقيين في بِناء مُستقبل يَسوده الإنصاف والاعتراف بِحقوق الشعوب، بدلًا من التصفيق للصهاينة والمُداهنة لهم  ودعمكم العلنيّ لهم على إبادتهم الجماعية بحق أبناء شعبنا المُناضل المَكفولة حقوقه بكافة المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات الدولية التي ثبت أنها تَتَّسم بازدواجية المَعايير الأممية وتترنم على أوتار التحيّز السياسي والمَصالح الجيوسياسية.

 

لقد ظلَّت الولايات المتحدة، مُنذ إعلان قيام الكيان الصهيوني عام 1948م، الداعم الأكبر له في كل المَجازر التي ارتكبها بِحق الفلسطينيين، ولم تكن تصريحاتك يا رئيسًا ارتجف ميزانك تَحت وطأة الأكاذيب، إلا استمرارًا لِهذا الانحياز الأعمى، إن مَلايين الفلسطينيين الذين أجبروا على مُغادرة قراهم ومُدنهم لم يكن ذلك برغبتهم؛ بل بِفعل المَجازر الصهيونية المَدعومة من القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

 

ألم يكن من الأجدر بك؛ بدلًا من دعم سياسات الاحتلال، أن تدعم حق الشعوب في تَقرير مَصيرها كما تَنص عليه المادة الأولى من العهد الدولي الخاص بالحقوق المَدنية والسياسية؟ أم أن حقوق الإنسان تُفسَّر وفق المَصلحة الأمريكية فقط؟

 

السيد ترمب، يا من اختلط نور الحق بِظلال الزيف في موازينك؛ إعلم يقينًا إن القوة لا تُصنع بِقرارات جائرة؛ إنما تُصنع بالعدل، وإذا كنت قد خُدعت بِوهمٍ أن الفلسطينيين سَيَقبلون التَّهجير، فالتَّاريخ قد أثبت أن الاحتلال لم يُفلح إلا في شيء واحد: إشعال مَزيد من المُقاومة، لقد أثبت التاريخ أن الدماء الفلسطينية ليست رخيصة، ولن تكون فلسطين يومًا بِضاعةً تُباع في سوق المُساومات السياسية، وإذا كنت ترى التَّهجير مُجرد حبرٍ على ورق، فاعلم أن فلسطين كُتبت بِدماء صامديها، وأن صوت الأحرار في هذا العالم سَيظل يَصرخ في وجه الظلم حتى تَتَحقق العدالة، ولو بعد حين.

 

نقول لك ما كان يُردده دائمًا الشهيد الرمز ياسر عرفات في تصرياته: "هي خطة واحدة هتنتصر، هي خطة الشعب الفلسطينى لتأسيس الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، شاء من شاء وأبى من أبى، واللى مش عاجبه يجى يشرب من بحر غزة "..

 

ونحن نقول لك بلهجة فلسطينية حرّة؛ يا عرّاب صفقة القرن: "كان غيرك اشطر"..

باحث في درجة الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية 

اخر الأخبار