روح غاندي وفلسفة التسامُح
د. عبد الحسين شعبان
أمد/ في «بارك راجات» (ضفّة الملك) حيث يرقد غاندي، ألقيتُ نظرةً عليه مأخوذاً بنهر بامونا الأسطوريّ الذي يمرّ عبر دلهي قادماً من جبال الهملايا، ومن الجهة الأخرى لراجات، هناك متحف ضمَّ مقتنيات غاندي وكُتبه وصوره، هو الذي ظلّت روحه ترفرف فوق الهند، حيث كان قد حلّق في سماواتٍ بعيدة وسبحَ في بحورٍ عميقة، ولاسيّما أنّ الإنسان في داخله كان هو المقياس لكلّ شيء بحسب الفيلسوف الإغريقيّ «بروتوغوراس».
هذا ما كتبته لدى زيارتي قبر الماهاتما غاندي في العام 2009، كما كتبتُ بضعة مقالات عن انطباعاتي الشخصيّة، بما فيها علاقة غاندي بفكرة التسامُح.
ومعروفٌ أنّ غاندي اغتيل كردّ فعل لأفكاره وآرائه، وتلك إشكاليّة نظريّة كبيرة لا تزال مطروحة على طاولة البحث من جهة وفي الواقع العملي من جهةٍ أخرى وبصورة أكبر، ولا سيّما نشوء ظواهر اللّاتسامح التي تُثيرها أحياناً أجواء التسامُح، فتستغلّها القوى غير المُتسامحة لفرْضِ آرائها بالعنف أو بالتهميش أحياناً.
وثمّة أسئلة كبرى تتفرّع عن هذه الإشكاليّة، وتتداخل معها، ومنها: ما السبيل للتعامُل مع ظواهر اللّاتسامح ومع غَير المتسامحين؟ هل ينفع نهْج التسامُح مع اللّامُتسامحين؟ أم ثمّة مواجهة، لا بدّ منها، بين التسامُح واللّاتسامح وبين المُتسامحين وغير المُتسامحين؟ ومتى يكون الحزْم مع غير المُتسامحين ضروريّاً؟ وهل التسامُح أو اللّاتسامُح هو اختيار أم اضطرار؟ وهل يؤدّي عدم التسامُح مع غير المتسامُحين إلى الابتعاد عن قيَم التسامُح؟ أم أنّه يقود إلى ترسيخها؟ ثمّ ما هي مبرّرات البعض في مُواجَهة اللّاتسامُح وغير المُتسامحين بالوسيلة ذاتها لإيقافهم عند حدّهم؟ أوَليست تلك ذريعةً أو حجّةً في نقْضِ قيَم التسامُح ذاتها؟ وبالإمكان القول إنّ ثمّة خَيطاً رفيعاً بين استخدام القوّة والعنف في ردْع غير المُتسامحين وبين اللّجوء إلى «حُكم القانون» لمنْع المُغالاة في الاستفادة من بيئة التسامُح بالضدّ منها، وهو ما يذهب إليه كارل بوبر في دفاعه عن قيَم التسامُح.
ويشهد تاريخ الهند على العيش المُشترَك لشعوبٍ وأُممٍ ولغاتٍ وأديان، حيث يتواصل الهندوس والمُسلمون والسيخ والبوذيّون والمسيحيّون وغيرهم، ونحو 23 لغة رسميّة وأكثر من ألف لهجة محليّة لسكّانٍ يبلغ عددهم مليار و440 مليون نسمة، في إطار نظامٍ فيدراليّ تعدّديّ ديمقراطيّ يتكوّن من 25 إقليماً، من دون أن يعني ذلك اختفاء التعصُّب ووليده التطرُّف ونتاجهما العنف، وكلّ ما يتعلّق بنقائض التسامُح، من إشاعة روح الكراهية والتمييز والاستعلاء والزعم بامتلاك الحقيقة وادّعاء الأفضليّة وعدم الإقرار بالتنوُّع والتعدّديّة والتنكُّر للحقّ بالاختلاف.
لم يكُن غاندي الضحيّة الوحيدة للّاتسامُح، فقد تبعته لاحقاً أنديرا غاندي وراجيف غاندي، والسبب دائماً هو عدم الإيمان بقيَم التسامُح، حيث تكون مبرّرات القَتَلَة، على الرّغم من اختلاف مسوّغاتها، عدم قبول الآخر بسبب دينه أو قوميّته أو لغته أو لَونه أو جنسه أو أصله الاجتماعي.
جدير بالذكر أنّ غاندي اختارَ نَهْجَ اللّاعنف والمقاومة السلميّة المدنيّة، هو الذي أوصل الهند إلى الاستقلال في مواجهة بريطانيا، أعتى دولة إمبرياليّة في حينها، وهو ما ظلّ متمسّكاً به حتّى يوم اغتياله، في حين كانت مبرّرات القاتل (ناتهورام غودسي) المُعلَنة والمُضمَرة، تدور حول موقف غاندي من تجزئة الهند، التي حاول البريطانيّون العبث بوحدتها، وقد أصرّ على مبدأ التضامُن والعيش معاً بين الهندوس والمُسلمين وباقي المجموعات الثقافيّة، ورفْض التقسيم بشدّة لأسبابٍ مبدئيّة ووطنيّة، لم تكُن بعيدة عن إيمانه بمبادئ التسامُح، فشجَّع المُسلمين وحَثَّهم على عدم الرحيل إلى القسم الباكستاني عندما أصبح التقسيم أمراً واقعاً، ودعا الهندوس وشجَّعهم على التعايُش مع المُسلمين وعدم اللّجوء إلى العنف، وكانت تلك السياسة المتسامحة تلقى رفضَ بعض القادة المتطرّفين من الفريقَيْن.
بعد ما يزيد على ثلاثة عقود ونصف العقد من الزمن على اغتيال غاندي، مؤسِّس الهند الحديثة ورائد الاستقلال الأوّل، وتحديداً في العام 1984 سيقوم مرتكب آخر، يدعى جاسفير باغتيال السيّدة أنديرا غاندي، وهو مرافقها من الطائفة السيخيّة، والمبرّرات هي ذاتها. وأنديرا غاندي هي ابنة زعيم الهند جواهر لال نهرو أحد قادة حركة الحياد الإيجابي ومؤتمر باندونغ في العام 1955 وحركة عدم الانحياز لاحقاً.
ولعلّ اسم أنديرا غاندي له أكثر من دلالة للتسامُح، فهي ابنة نهرو، ودرست في بريطانيا في أربعينيّات القرن المنصرم في جامعة أكسفورد وهناك أحبّت زميلاً لها من أصول فارسيّة، وهو مسلم واسمه فيروز غفّار، لكنّ أجواء اللّاتسامُح لم تكُن تَسمح باستمرار علاقتهما وبالزواج منه، وقد ناقشت المسألة مع والدها (نهرو) ومع غاندي، الذي تبنّى هذا الشابّ اليتيم اللّامع، فبادر إلى إعطائه لقبه بعد اقتناعه به وإيماناً منه بمساواة البشر وقيَم التسامُح، مؤكِّداً بذلك أنّه أبٌ لجميع الهنود، الأمر الذي مكَّن فيروز غفّار (غاندي) من الزواج من أنديرا، وأصبح اسمها أنديرا غاندي لاحقاً.
لعلّ سبب مقتل أنديرا غاندي هو اللّاتسامُح أيضاً، حيث كان بعض السيخ وقتها قد طالبوا في إقليم البنجاب بالاستقلال بما يسمّى بكالستان باعتباره حقّاً لهم، وكانوا قد تقدّموا باقتراحٍ لها، ولكنّها رفضته، الأمر الذي دفعهم للقيام بأعمالٍ عنفيّة طالت أعداداً من الهندوس، فاضطرّت حينها إلى التصدّي لهم في عمليّة سمّيت ﺑ بلوستان Bluestan، خصوصاً بعد اعتصامهم في المعبد الذهبي في البنجاب، وحدوث معارك أدّت إلى سقوط عدد من المدنيّين. وعلى الرّغم من تردّدها في قصف المعبد أو اقتحامه، إلّا أنّها في نهاية المطاف أعطت الأوامر بحسم الأمر والتصدّي بحزْم إلى مَن اعتبرته سبباً في المشكلة ويتحمّل نتائجها.
إنّ رفض أنديرا غاندي مطلب التقسيم (استقلال إقليم البنجاب) وتمسكّها بوحدة الهند كان وراء اغتيالها، مثلما لقي راجيف غاندي مصرعه أيضاً، لأنّه وقف ضدّ حركة التاميل، ووافقَ على إرسال قوّات هنديّة لدعم سريلانكا، يومها قامت سيّدة في محاولة لتقديم باقة ورد له، لكنّها بدلاً من ذلك فجَّرت قنبلة فيه، وكان هذا قد حدث في إقليم كيرالا في العام 1991، الذي يُعتبر من الأقاليم الغنيّة في الهند، والذي غالباً ما كان يفوز فيه الشيوعيّون في الانتخابات منذ الاستقلال ولدوراتٍ عدّة.
إنّ مسلسل الاغتيالات للزعامات الهنديّة، فضلاً عن استخدام العنف بين المجموعات الثقافيّة، بين الفينة والأخرى، يدعو إلى التأمّل، فبذرة اللّاتسامح ما تزال قويّة في المجتمع الهندي الذي يشهد في الكثير من الأحيان نزاعات وصدامات واحترابات، ولاسيّما بين الهندوس والمسلمين، وهو المرض الخبيث الذي بذرته بريطانيا قبيل اضْطرارها للرحيل عن الهند.
لقد حاول غاندي أن يطبع حزب المؤتمر الوطني الهندي بطابعه، بالدعوة إلى سياسة اللّاعنف والتسامُح، وهذا الحزب العريق كان قد تأسّس في العام 1885 على يد السياسي الهندي المتحدّر من عائلة ثريّة، واسمه دادا بهاي نروجي، الذي درس في بريطانيا، ثمّ ترأّس تحرير صحيفة «حريّة الهند» Azadi Hind وقد انضمّ إليه غاندي في العام 1920 وأصبح أحد أبرز قادته مؤسِّساً لفلسفة جديدة أساسها اللّاعنف، ولاسيّما بعد عودته من جنوب أفريقيا وسجنه هناك لمرّاتٍ عدّة حيث قضى فيها نحو 21 عاماً.
وكان غاندي قد تخرّج من كليّة الحقوق في جامعة أكسفورد، وبسبب أوضاع جنوب أفريقيا والتمييز العنصري فيها، تبنّى نَهجاً سياسيّاً فريداً، قال عنه إنّه يتّسم بالعقلانيّة والواقعيّة، ولاسيّما بعد عودته إلى بلاده، واستغلّ وجود ضريبة على الملح تفرضها بريطانيا على الهنود، فدعا إلى تحرّكٍ جماهيري سلمي مدني واسع للامتناع عن دفْع الضريبة، كما شجَّع الحركة النسائيّة للتمسّك بالوطنيّة الهنديّة من خلال ارتداء الملابس الهنديّة الشعبيّة، وكان أساس حركته هي إتّباع الأساليب النضاليّة اللّاعنفيّة، وعدم الانجرار إلى ردِّ فعلٍ لقتل البريطانيّين مؤكّداً أنّ «الحقيقة ستنتصر يوماً ما».
وإذا كانت بريطانيا قد استجابت «مضطرّة» لاستقلال الهند، وتخلّت عن درّة التاج البريطاني، لكنّها زرعت لغماً كبيراً بين سكّانها، ولاسيّما بين الهندوس والمُسلمين، الأمر الذي شجَّع بعض السياسيّين للمُطالبة باستقلال باكستان، ومنهم محمّد علي جنت المدعوم من قِبَلِ بعض المتطرّفين الإسلاميّين بسبب العنف الذي تعرّض له المسلمون عشيّة الاستقلال، ولم يكُن الأمر يخلو من يد بريطانيا التي كانت سياستها تقوم على قاعدة «فرِّق تَسُد» فشجَّعت على الاحتراب تمهيداً للانفصال.
كان ردّ فعل بعض السياسيّين الهندوس التسليم بالأمر الواقع مثل سردار بلب بهاتي باتيل وإلى حدّ ما جواهر لال نهرو، انطلاقاً من «فنّ المُمكن» وسياسة «الأمر الواقع»، حتّى وإن كانا ضدّ التقسيم، في حين كانت نظرة غاندي المتسامحة تصرّ على التعايُش ورفْض التقسيم، وما تزال مشكلة كشمير منذ ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن من الزمن مشتعلة، وتُشكِّل قنبلةً موقوتة.
كتبَ ماركس وإنجلز عن حرب استقلال الهند الأولى في خمسينيّات القرن الثامن عشر، ولا سيّما انتفاضة فيلور في العام 1806 متنبّئَيْن باستيقاظ الشرق، فإضافةً إلى الهند كانت الصين في صلب تصوّراتهما. وكتبَ ماركس مقالاتٍ مكثّفة في الفترة بين 1857 - 1859 في صحيفة «نيويورك ديلي تريبونا» New York Daily Tribuna تحدَّث فيها عن نهضة الهند والصين، مُستنتجاً أنّ القضاء على الكولونياليّة في الهند يُعتبر أحد أهمّ الأركان التي سيتوقّف عليها مصير الأوليغارشيّة البريطانيّة، لأنّها ستؤدّي إلى تدمير العلاقات الاقتصاديّة الإقطاعيّة وستنعكس إيجاباً على أوروبا. وقد كانت عمليّة استقلال الهند، وفي ما بعد الشعوب المُستعمَرة والتّابعة، المدماكَ الأساس لغياب شمس الإمبراطوريّة البريطانيّة بعد الحرب العالميّة الثانية.
وبقدر اتّساع دائرة التسامُح في الهند ففيها تاريخٌ لامُتسامحٌ أيضاً، فبعد وفاة زوجة ملك الملوك شاهجهان «ألجو مان بانو بكم» الملقَّبة «ممتاز زمان» بنى لها الشاهجهان قصراً سمّي بالقصر الأحمر Red Fort في أكرا وآخر في دلهي، وتعهَّد بعدم الزواج بعدها رمزيّة للوفاء، وحيث كان يرفل بحكمه قامَ ولده بسجنه في قصره حتّى وفاته بعد سبع سنوات.
سألتُ مرافقي الشاب في زيارتي الأولى عن رأيه بغاندي وسياسة التسامُح؟ أجابني: غاندي رجلٌ عظيم ورمزٌ كبير، لكنّ أفكاره مثاليّة وغير واقعيّة وليست مُمكنة التطبيق، إذْ لا يُمكن حلّ الصراعات من دون عنف، لأنّ مَن بيده الثروة والمال والسلطة لا يستغني عنها لمصلحة المحرومين أو لتحقيق العدالة والمُساواة من دون وجود قوّة ضاغطة عليه.
وسألته: هل تعني بالقوّة العنف؟ وكنت أقصد رؤية ماركس عن دَور العنف كمحرّكٍ للتاريخ، أم القصد منها المنْع والردع؟ تَمَلْمَل الشابُّ ذو الثقافة التعدّديّة الهنديّة - الشرقيّة - الغربيّة، فأردفته بالقول: المعرفة قوّة بحدّ ذاتها على حدّ تعبير الفيلسوف فرنسيس بيكون، فهل توافقني على استخدامها؟ أم أنّك تميل إلى استخدام العنف الفيزيولوجي؟ وكنت قد كرّرتُ ذلك بطرحي أسئلة على مرافقتي الهنديّة خلال زيارتي الثانية لحضور مؤتمر نظّمه المجلس الهندي للعلاقات الخارجيّة في نيودلهي بخصوص العلاقات الآسيويّة (2010).
أعتقد أنّ القضاء على الأميّة والجهل وتحسين الأوضاع الاقتصاديّة والمعاشيّة، وتأمين ظروف عمل مناسبة وضمانات صحيّة واجتماعيّة، كفيلٌ بنشْرِ قيَم التسامُح ومُقارَبة العدالة وتهْيئة الظروف للإقرار بالتنوُّع والتعدُّديّة وقبول حقّ الاختلاف وحقّ التمسُّك بالمُعتقدات بحريّة ومن دون عسفٍ أو خوف، وهو ما تدعو له قيَم التسامُح، ولاسيّما إذا تمّ ذلك من خلال التربية والتعليم ولجميع المراحل الدراسيّة، إضافة إلى التشريع والقوانين، ويلعب الإعلام دَوراً مهمّاً على هذا الصعيد، إذ بمقدوره الإسهام بشكلٍ كبير في نشر وتعميم ثقافة التسامُح؛ وهنا يُمكن أن تُسهم مؤسّسات المُجتمع المدني بقسطها في التأثير على النُّخب الفكريّة والسياسيّة والدينيّة، لتأكيد احترام الحقوق الإنسانيّة والاعتراف بحقّ الاختلاف والتنوُّع والتعدّديّة. ولعلّ مهمّة كتلك تحتاج في ظروف الهند إلى تراكُمٍ طويل الأمد لترسيخ قيَم التسامُح وفي مواجهة اللّامُتسامحين الذين تُصبح مهمّتهم صعبة في المجتمعات المتسامحة.
وإذا كان نهرو باني الهند هو أوّل من رفع علم بلاده الوطني في 15 آب (أغسطس) 1947 مُعلناً نهاية الحكم البريطاني للهند، فإنّ روح غاندي المؤسِّس وصاحب فلسفة اللّاعنف والتسامُح ما تزال ترفرف على الهند، ويشكّل مرقده الأخير في راجات مزاراً للهنود وضيوفهم من شتّى أنحاء العالَم حتّى وإن تحفَّظ البعض على فلسفته اللّاعنفيّة.