نوفمبر بطعم اكتوبر
صالح عوض
أمد/ ثورة اجتمع لها اليقين والعزيمة والإرادة والفداء في أعظم صورها فكان لها أن تقرر الانتصار لتزيح استعمار استيطاني احلالي ما ظن أن أحدا سيخرجه بعد 132 سنة.. انها ثورة قدر حسم جولة كبيرة في سياق صراعنا ضد الاستعمار العالمي.
لنوفمبر هذه السنة طعم آخر ومهمة أخرى.. له رائحة الأرض المباركة مجبولة بدم الشهداء، وله هواء نقي من كل غبار يملأ الرئتين ليطيب الكلام والنفس الطويل.. لنوفمبر هذه السنة تجلياته وهو يرفع برأسه بكل ود وحب وتصميم أن يا أخوتي يا أبناء 7 أكتوبر المجيد لا تلتفتوا للمتخاذلين والرعاديد الجبناء وللذين استكانوا للذلة والهوان.. لا تحزنوا لكثرة الشهداء الأعزاء ولا لهول الدمار الرهيب فكل هذا سيكون ذات يوم قريب شارة مجد وفخار.. غدا يا أبناء أكتوبر المجيد يرفع أبناء الشهداء هاماتهم وينتسب للشهداء كل أبناء الشعب وحينها سيقول الجبناء يا ليتنا كنا معهم..
لنوفمبر هذه السنة لغة أكثر وضوحا وأعمق بلاغة وبيانا: يا فلسطينيون لا تتوقفوا كثيرا في انتظار من كره الله انبعاثهم فثبطهم، ان الله أمدكم بنور من عنده وبصيرة لم يألفها القوم وزودكم باعظم سلاح انه الصمود والصبر والمرابطة وها أنتم تقتحمون العنفوان وبحار الموت لم تنكسر ارداتكم رغم أهوال المعاناة.. فنوفمبر اليوم بطعم اكتوبر لنستأنف التعرف على أنفسنا وعلى عدونا وندخل الجلجلة غير هيابين بل ننتظر وعد الله الحق.
إن قافلتهم تخرج الآن من الجبال والسهوب والوديان، ومن الحواري العصية من كل الجزائر، يحدوها نشيد الحرية تصنع شمسا بحجم الكرة الأرضية.. وقوفاً وقوفاً أيها الناس جميعا، ففي هذه الساعات يتقرر المصير الإنساني للمستعبدين ويتهاوى صرحُ الظلم والظالمين.. وهنا يتقرر الانتصارُ؛ انتصار المستضعفين فهنيئاً لكم جميعا بثورة نوفمبر الإنسانية العالمية.
أجل.. لم تكن الثورة الجزائرية حدثا داخليا قام به رهطٌ من الناس لتصحيح مسارات معينة في حياة الناس أو تعديل أوضاع مختلّة في تراتب الطبقات والمصالح.. ولم تكن ثورة الجزائر تسير تحت أي عنوان من عناوين الصراع المعروفة في العالم أنذاك، ولم يكن ليستوعبها لونٌ من الألوان، إنما هي باختصار ثورة الانسان بكل عناوينه ضد الجريمة بكل تكثيفها وعناوينها.. ومن هنا جاءت الصعوبة التي استدعت تضخم حجم التضحيات التي تفوق التصوّر.
جاءت الثورة الجزائرية، لا لإيجاد تصالح مع الواقع، أو تقاسم مع المجرمين العنصريين للمساحة والزمان، إنما جاءت لتقول لا مكان للمجرمين الاستعماريين الاستحواذيين في الجزائر، وكما قال الإمام الشهيد العربي التبسي عقب اندلاع الثورة: “بعد اليوم إما الجزائر أو فرنسا.. لا تعايش بيننا”.. فكانت الثورة تعني النقيض الكامل للخلل التاريخي الناتج عن الاستعمار الفرنسي.. وكانت بهذا المعنى إلغاءً للوجود الاستعماري نهائيا من بقعة جغرافية استراتيجية في مشروعه الاستعماري الواسع في المنطقة والعالم، فجاء هذا الجرح الغائر في جسم الاستعمار مستنزفا روحه الشريرة وبرامجه الإجرامية وخططه الاستحواذية ليتساقط من مكان بعد مكان تلاحقه صرخات الحرية التي أوصلتها ثورة الجزائر إلى عنان السماء.
لهذا، كان انطلاق ثورة أول نوفمبر المجيدة بمثابة انفساح الأرض لميلاد مجتمع مختلف وقيم مختلفة وقوانين للحياة مختلفة ووجهة في الحياة مختلفة تتدافع ضد مجتمع عنصري لصّ وقيم شيطانية وإجراءات طاغوتية مستبدّة ووجهة في الحياة تميّز الناس بين اللصوص المنعمين والمستضعفين المهانين.. فكان الصِّدام بهذا المعنى واسعا شاملا.. وأكدت ثورة نوفمبر أنها لم تكن ردا آنيا دفعت إليه أحداث طارئة، بل كانت مشروعا حضاريا متكاملا في الثقافة والمنهج واللغة والهوية.. فكانت العربية والاسلام والجزائر هي مثلث الوعي والهوية وقاعدة الحشد والانتماء، ومنذ اللحظة الأولى لانطلاق الثورة، كان واضحا أنها اهتدت إلى سبل الرشاد، فكان أهمّ ما تجلى فيها أنها معلقة بهدف واضح محدد جلي، إنه حرية الجزائر أرضا وشعبا.. وكانت أداتها واضحة جلية وهي المواجهة بكل أنواع المواجهة الممكنة لكسر الحلقات الاستعمارية ولتدفيع الادارة الاستعمارية الثمن الباهظ، لكي تضطر لوضع خطة انسحابها بكل آلياتها الاستعمارية العنصرية من الجزائر..
كان رفض التوقف في منتصف الطريق يعبّر عن قناعة ووعي بأن الوقوف في الصراع قبل انتزاع الحق، يعني إهدار الكفاح والتضحيات وتسليم العدو فرصة لالتقاط الأنفاس والمبادرة من جديد.. فكان رفض الثورة المطلق في لحظتها الأولى أيّ مساومة على الحق التاريخي وأيّ تنازل عن جزء من أرض الجزائر.. وهنا كان أحد أهم الخطوط الحمراء التي كرّستها الثورة في وعي الجميع.. كما كانت الوحدة وحدة التمثيل والتوجيه والقيادة خطا أحمر آخر لا يستطيع أحد أن ينجو بجلده إن اخترقه.. كما كانت المقاومة خيارا مقدّسا حتى تتم عملية التحرير.
أدركت ثورة نوفمبر منذ البداية أن الطريق صعبٌ وشاق، بل يكاد يكون مستحيلا.. ومن العبث والحال هذه، أن تتم المراهنات على أوضاع عربية إقليمية وهي أصلا لا تعرف هذه الروح التي يتحرك بها الناس في الجزائر، وترى في خطابها كلاما يحتاج دليلا وبرهاناً، لهذا كان لابد من فعل من نوع خاص لا يستطيعه إلا المؤمنون بقضيتهم وعدالة جهادهم، فكان التوجه إلى الشعب الجزائري لرفد الثورة ومعاونتها والانطلاق بعمليات نادرة وبطولية، في ظل تغييب إعلامي مكثف.. وقدّم الشعب الجزائري من ماله وأبنائه العدد الوفير حتى ضرب الأمثلة المميزة النادرة في كثرة الاستشهاد وتنوّعه.
واجهت فرنسا الثورة ببطش جنوني، وجندت كل وسائلها السافلة لإجهاضها، وفتكت بالمجتمع الجزائري في الأرياف والقرى والمدن، لكي تقمع الثورة وتهدم البستان وتحرم الناس من ربيع عمرهم ممثلا في ثورتهم وانتصارها.. وحشدت من أجل ذلك قوى اجتماعية محلية وأخرى إقليمية، وحاولت من خلال التهديدات أن تفرض على كثير من عناصر الحياة التدمير أو الموت.. فتحت أبواب السجون الرهيبة وقطعت في المقصلات رؤوس الأحرار الجزائريين وقتلت بالجملة وارتكبت مجازر حرب كثيرة..
لم يكن العالم يتصور أنه بامكان استقلال الجزائر من مخالب الأسد، لذلك كانت حركة المجتمع الدولي بطيئة، ولم تصرح أي من الدول العظمى أو الوازنة كالهند مثلا، بأي موقف حقيقي من القضية الجزائرية، ولم يفتّ ذلك في عضد الثورة التي راحت تصنع الفارق من خلال المواجهات مع العدو في الميدان، فما كان من كثير من القوى الشعبية وسواها إلا التوجه إلى صف الثورة يرفدونها بالمال والأولاد والغطاء الأمني.. فكان اعتماد الثورة على الشعب الجزائري كاملا.
أكدت ثورة نوفمبر أنها لم تكن ردا آنيا دفعت إليه أحداث طارئة، بل كانت مشروعا حضاريا متكاملا في الثقافة والمنهج واللغة والهوية.. فكانت العربية والإسلام والجزائر هي مثلث الوعي والهوية وقاعدة الحشد والانتماء.
ومن هنا، كان انتصار ثورة نوفمبر حقيقياً، وكانت حريات الشعوب أمانة في جيل نوفمبر الذي حقق انتصاره كمقدمة طبيعية وحقيقية وقوية لانتصار الشعوب وحريتها واستقلالها.. من هنا كان دعم الثورة والدولة الجزائريتين لحركات التحرر في العالم ضد كل أشكال الطاغوت فترجمت ثورة نوفمبر بذلك حقيقتها وجوهرها؛ إنها قاعدة حركات التحرر ضد الاستعمار..
لقد أدرك الاستعمار أن هذه الروح متمكنة من الثورة التي بدأت ضرباتها في وديان الجزائر وجبالها، فأسرع لإعطاء بعض مستعمراتها استقلالها لعلها تتمكن من التفرغ لمواجهة البركان الجزائري، ولكن عبثا صنعت.. وتوالت ثورات الشعوب حتى تحررت إفريقا وأمريكا اللاتينية وكان للجزائر الدور الأساس.
ومما لاشك فيه، لابد من النظر إلى أن الجزائر هي محضن ميلاد الثورة الفلسطينية، والجزائر هي من ربّت ورعت ودعمت وساندت الثورة الفلسطينية في أقسى الظروف ضد القرار الدولي القاضي بشطب فلسطين من الجغرافيا والشعب الفلسطيني من الوجود.. فكانت الثورة الجزائرية من أسهم بقوة في استعادة الوعي بفلسطين والشعب الفلسطيني.
ثورة غيّرت مسار التاريخ.. حيا الله المجاهدين ورحم الشهداء.. والله غالب على أمره