على هامش التداعيات الدراماتيكية في بيروت..وغزة..لماذا الهزائم عندنا تدفعنا على طريق انحداري..ولماذا تمهّد الهزيمة لهزيمة أخرى تليها..؟!
محمد المحسن
أمد/ "إلى متى ستظل يا وطني..ناقلةََ للنفط ومحطّة لأعلام الدول الكبرى.. ونموت مذلة..؟ (.مظفر النواب)
أعرف سلفا أن أجواء الشرق الأوسط ساخنة،من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب،أعرف مثلا أن "إسرائيل" تشنّ حربا حقيقية على الشعب الفلسطيني الذي غدا مسّيجا بالأكفان.وأعرف أيضا أن الصهاينة ومن ورائهم أمريكا وكل-قوى الخراب في هذا الكوكب الأرضي الكئيب-ريدون رسم أقدارنا بألوان دامية تحز شغاف القلب.
وأعرف أخيرا أنّ العلاقة وثيقة بين الحرب الفعلية والتهديد بها في أسبوع واحد هنا.. وهناك. أي أنني أعرف ما يعرف العرب ويطالعونه في كل مكان،ورغم ذلك كله،فإنني أستأذن في حديث من القلب،ربما بدا للوهلة الأولى بعيدا عن العاصفة المخنوقة في قمقم الشرق الأوسط.. هو حديث "القلب" الذي اكتوى بأحزان هذه الأمة منذ أمد بعيد.
من هذا- الجرح-أسمح لنفسي بالقول اننا أشرفنا على هوة العدم وغدونا منها على الشفير،لا سيما ونحن نقدّم للعدو أثمن الهدايا. بعضنا يحرث له الأرض لإقامة المزيد من المستوطنات،وبعضنا يعبّد له الطرق لإقامة الدويلات،والبعض الاخر لا يرى ما يجري تحت الجسر من مياه هادرة،ولا يقرأ من البحر كله إلا سطحه الأزرق المتموّج.
من هنا.. سأصارح:
حين أوشكت الانتفاضة الفلسطينية على إسقاط الأبويات السياسية والاجتماعية وسائر تربويات الوصاية،هرع-الخائفون- إلى استدعاء كل الاحتياطيات لتدجينها،وتحويلها إلى مجرد جملة معترضة في كتاب العرب الامتثالي.
وحين أصبحت قادرة وحدها على إنجاز "وطن"واستقلال، وتحرير لمقدسات تخص مليارا ونصف المليار من البشر..أسرع البعض منا إلى طاولة المفاوضات كي يبتاع "البضاعة الفاسدة " مرتين ويمنح العدوّ،من حيث لا يدري،طوق النجاة.!
وإذن لن يكون مفيدا إذا التذكير بما آلت إليه الوعود بسنغافورة "الشرق الأوسط ولا بالشكل العجائبي لخارطة "الولاية الجغرافية" في الضفة والقطاع شبيهة "الجبنة السويسرية" إذ يمكن اختصار كل ذلك بالقول : إن سنوات التطبيق تحولت إلى عملية إذلال مبرمج للشعب الفلسطيني،وفيما هو يُوعد بدولة،كانت أسنان الجرافات تسحب الأرض من تحته،والمستوطنات تستولي على نسغ حياته في أرضه المعروضة لتهويد زاحف..وكل هذا يجري في تلك الـ20 بالمئة التي يجري التفاوض عليها،من دون الحديث عن ذلك المستلب من الأرض،وتقر التسوية بشرعنة اغتصابه.!
وما بين مفاوضات على اتفاقات مرحلية،وأخرى على اتفاقات رزمة نهائية، بدأ مسار النضال الفلسطيني كله يتجه نحو هدف معاكس تماما لما أراده الفلسطينيون والعرب،منذ أن شرعوا في مجابهة الغزوة الصهيونية لبلادهم،لا سيما أنّ الاحتلال المموّه بغلالة "السلام"هو أشد وطأة وأكثر قسوة من الذي يسفر عن نفسه بوضوح كامل من دون أي تغليف.
ففي الحالة الأولى يجري فرض "الانكسار"بمسمى ‘السلام" وفي الحالة الثانية تكون المواجهة مفتوحة على الاحتمالات جميعا..
أقول هذا،في مثل ليل عربي كهذا،ونحن على مشارف سنة ميلادية جديدة (2025) ستكون "حتما" مطّوبة للولايات المتحدة وضاحيتها الاستيطانية شرق البحر المتوسط..
ولكن لا تبدو ملامح المعركة الأمريكية واضحة بالشكل الذي-نريد- وإذا تأسست على صدام الحضارات فسوف تعني نهاية التاريخ، وهذا ما نظر إليه الأمريكيون بالذات،أما إذا كانت نشرا للخوف والذعر،فإنها لن تبتز سوى الفزعين (…) ولا ينبغي أن يدفع العرب والفلسطينيون وكذا اللبنانيون ثمنا لمغتصبي حقوقهم،بل إن الإصرار على المقاومة المشروعة في هذه اللحظة بالذات،هو ما يقدّم إسهاما كبيرا في جلاء حقائق كثيرة.
أقول ذلك كله من دون أن أسقط من- قراءتي-المشهد العراقي في مختلف تداعياته الدراماتيكية،ذلك أن تمظهرات الاحتلال،هنا أو هناك،لا يمكن أن تخطئ العين نارها وجنونها.
سأصارح:
لا شك أن سقوط العراق بيد قوات الاحتلال الأمريكي-البريطاني هو زلزال مريع،قد زلزل فينا أكثر مسلماتنا وخلق لدينا احباطا لا نعتقد أننا سنشفى منه سريعا،خصوصا وقد شاهدنا-بعيون دامعة -"جيش هولاكو الحديث" يستبيح المتحف الوطني العراقي ويحرق المكتبات،ويمحو الذاكرة الفنية،ويهدم كل المرافق الحيوية وأسس الأمان الأولية الضرورية لمجتمع يحتاج إلى أن يفكّر ويكون خلاّقا.
ولكن..عوض أن تتأسس الجبهات على رفض الاحتلال ومقاومته والحيلولة دون تمكينه في الأرض،انجرف الكثيرون إلى الرثاء والبكاء على الأطلال وما أبرعنا في هذا ولدينا من تاريخه ورموزه وأدواته ما يكفي كي نغرق ونستغرق فيه لأمد طويل..!
هذا في الوقت الذي تعالت فيه-بعض الأصوات-التي تدعو إلى الانهزام أيا كان شكله (قبولا بالحل "السلمي" وكذا "محاكم التفتيش".. أم خضوعا لاشتراطات البنك الدولي) بمعنى الاستسلام لكل ما تطلبه أمريكا لئلا يحدث- لنا-ما حدث للعراق..!
وهنا أقول،صحيح أنّ هذه الهزيمة ليست استثناء في تاريخنا المعاصر،بل هي تكرار لهزائم أخرى وإن بأشكال جديدة أشد مرارة لكنها تعيد التذكير المؤلم بها: هزيمة الجيوش العربية في فلسطين عام 1948،هزيمة 1967،إحتلال إسرائيل للبنان وعاصمته بيروت عام 1982على مرآى من الدول العربية،حرب الخليج الأمريكية بتغطية عربية..
إن كل واحدة من هذه الهزائم وأخرى لم نذكرها سمّي بعضها نكبات وبعضها الاخر نكسات وبعضها تحريرا قابلة للتفسير"‘بالظروف المعينة"وبالمؤمرات من هذا الطرف أو ذاك، وبالخيانات أو التقصير،لكنها كلها مجتمعة،عصية على التفسير بالأسباب الجزئية لكل منها..
إن الأمم تنهزم،فتتجاوز الهزيمة وتعيد البناء وتستعيد القوة وتتابع مسيرتها.فلمَ يختلف الأمر عندنا؟ ولماذا الهزائم عندنا تدفعنا على طريق انحداري؟ ولماذا تمهّد الهزيمة لهزيمة أخرى تليها؟ !
وهنا أختم،لم يعد هناك شك،في ما أظن،أن سقوط بغداد،أصاب العرب في الصميم مما يؤكد لكل إقليمي عراقي أنّ بغداد هي جزء من لحم ودم الأمة العربية،ويؤكد لكل إقليمي غير عراقي أن استرداد بغداد لا استبدالها هو الإستراتيجية الوحيدة الممكنة لاسترداد الذات والأرض وفلسطين ولبنان والكرامة لكل فرد يعيش من المحيط إلى الخليج…
إنّ هذه الكلمات ليست مجرد عاطفة صادقة وعميقة فيّاضة بالحب للعراق،بل هي تعديل جذري لمفاهيم إقليمية شاعت في الزمن الأخير،فلا عروبة بغير العراق،ومن يكره-بلاد الرافدين-يقف عامدا في الصف المضاد لعروبة العراق،مهما تستّر بشعارات قومية..
وأرجو ألا أكون قد تجاوزت.