عبد الستار الدوري.. السياسي العصيّ على التصنيف

تابعنا على:   19:29 2024-09-06

عبد الحسين شعبان

أمد/ (الحلقة الرابعة والأخيرة)

احتكاكات مع السفارة العراقية

حصَلَتْ في العام 1976 وما يليها احتكاكات مع القنصل في السفارة العراقيّة، وهو موظف سوري، كان شديد الاستفزاز للطلبة.

وقبل ذلك في العام (1975) صدر قرار من مجلس قيادة الثورة يُلزم الطلبة الإقرار بمصدر الزمالة التي حصلوا عليها، وإلّا فإنّهم سيتعرّضون إلى المساءلة القانونيّة، والحكم عليهم بعقوبات غليظة، وهو ما كان يريد "القنصل" المذكور تطبيقه على الطلبة بالضغط عليهم ، وتعطيل معاملاتهم وعدم تجديد جوازات سفرهم، فضلًا عن تعامله الخشن والمُنفر معهم. وكنت  قد اصطدمت معه دفاعاً عن الطلبة، حيث تجمّعت لدينا العديد من الشكاوى التي واجهتهُ بها، الأمر الذي استفزّه أكثر، فحاول تعطيل إصدار جواز سفر جديد لي.

وقد تركت الأمر لبضعة أسابيع، حيث كنت أنتظر دفاعي عن أطروحتي للتوجّه بعدها إلى بغداد تطبيقًا للشعار الذي كنّا نرفعه "التفوّق العلمي والعودة إلى الوطن"، على الرغم من تدهور الأوضاع السياسية، واشتداد حملة الملاحقة ضدّ اليسار، التي أخذت بالتصاعد في أعوام 1977 و1978، حيث انفرط بعدها عقد الجبهة الوطنية بين حزب البعث والحزب الشيوعي.

دعوة عشاء

وصادف في أحد الأيام أن دعانا السفير عبد الستار الدوري على العشاء (1977)، شمران الياسري (أبو گاطع)  وموسى أسد الكريم (أبو عمران) وكاتب السطور، وقد فتح أبو عمران موضوع جواز سفري مع الدوري دون علمي بذلك مسبقًا، بعد أن كان قد سمع القصّة منّي، فخاطبني الدوري وهو يضحك، إذا وصلت المسألة إلى عبد الحسين شعبان، فيعني أن الأمور ستتّخذ شكلًا أسوأ. وعلى الفور طلب منّي إحضار 4 صور والمجيء إلى السفارة في اليوم التالي.

ولم يكن في ذلك الوقت في براغ مصوّر فوري، وقد كان لديّ 3 صور فقط، واقتطعت الرابعة من هُويّة مكتبة الجامعة. ومن المفارقات أنها الصورة التي تمّ وضعها على الجواز، ويظهر في أسفلها بقايا ختم المكتبة الأحمر وفوقه ختم السفارة. ويومها كان القنصل مجازًا، ووقّع جواز سفري نائب القنصل حينها، عمر الهزّاع، وكان قبل ذلك يعمل محصّلًا للتذاكر في معرض بغداد الدولي، وحصل خطأ كبير في الجواز، لم يكن بالإمكان تفاديه، إلّا باستبداله، وبما أن ذلك الجواز هو آخر جواز سفر لدى السفارة كما أخبرني نائب القنصل، حيث كانت السفارة قد طلبت من بغداد تزويدها بجوازات سفر جديدة، فكان لا بدّ من تصحيحه بكتابة ما يفيد بذلك باللغتين العربية والإنكليزية، ووضع ختومات عليه لتأكيد صحّة الصدور، وتلك حكاية أخرى.                                                                                                                                                                                                                                                                                                            

واعتكف الدوري بعد ذلك كما عرفت لعدّة أشهر في كارلوفيفاري تاركاً السفارة، لكن عاد بعدها إلى العراق سفيراً على ملاك وزارة الخارجيّة، وتولّى إدارة العلاقات العربية، واستمرّ حتى أُحيل على التقاعد. ثمَّ انتقل إلى براغ لنحو عام وبضعة أشهر، وعن طريق هاني الفكيكي وموفق فتوحي تواصلت معه، ودعاه الفكيكي لحضور اجتماع صلاح الدين للمعارضة العراقيّة 1992 الذي انعقد بعد مؤتمر فيينا في حزيران / يونيو من ذات العام، وانتخب عضواً في المجلس التنفيذي.

وقضينا وقتاً ممتعاً في "شقلاوة" مع عدد من الأصدقاء، وهناك عرّفته على بهاء الدين نوري ودخل في نقاشات معه. الجدير بالذّكر أن الدُّوري ظلَّ متحفّظاً على أداء المعارضة والمؤتمر الوطني العراقي، وهو الموقف الذي اتفقنا عليه، والذي شكّل حالة اعتراضيّة، لاسيّما بشأن الرهان على العنصر الخارجي أو ما سُمّيَ بالعامل الدولي، إضافة إلى موقفنا المندّد بالحصار الدولي ونظام العقوبات، حتى أن كلينا قدّم استقالته، وابتعد تدريجيًا عن الأنشطة المباشرة للمعارضة الرسمية، وكانت قناعاتنا أنه لا بدّ من تغيير النظام، ووضع حدّ للديكتاتورية والاستبداد بتحالف وطني واسع، يستفيد من الثغرات من داخل النظام وخارجه ويوظّفها لصالح العراق ومستقبله.

اللّجوء السياسي

في لندن ساعدت الدّوري بطلبه للحصول على اللجوء السياسي، وذلك بصفتي رئيساً للمنظّمة العربيّة لحقوق الإنسان، وهو ما حصل عليه بفترة قياسيّة واختار مسكناً بالقرب من مسكني، وكنّا نلتقي مع هاني الفكيكي، وأحياناً مع صلاح عمر العلي وإياد علّاوي وغسان العطيّة، وحين يزور مهدي الحافظ أو أديب الجادر ونوري عبد الرزّاق لندن، كنّا نلتقي معهم وبصحبة عايدة عسيران وفاروق الطائي وعامر عبدالله، الذي وصل هو الآخر لاجئًا، وسعد عبد الرزّاق وآخرين.

وكان الدُّوري دائم الحضور لمؤتمرات وملتقيات المنظمة العربيّة لحقوق الإنسان في لندن، حيث كان على صحبة وثيقة مع السيّد محمد بحر العلوم ورغيد الصلح وراشد الغنوشي وحامد الجبوري وعبد الرزاق الصافي، إضافة إلى مجموعة عربيّة متميّزة، كانت حريصة على المشاركة في نشاطات المنظمة في لندن.

طرائف الدوري

من الطرائف التي يرويها الدوري أنه حين كان مديرًا للإذاعة والتلفزيون، أن حزب البعث الذي تولّي السلطة، كان يُنذر أعضاءه ومجاميع الحرس القومي عبر الإذاعة والتلفزيون، ولاسيّما الإنذار (ج)، وذلك ببثّ شريط خاص ببعض الأغاني (الغجرية)، وصادف أن كان يحتسي عصيرًا في الأعظمية من أحد المحال، وبثّت الإذاعة الشريط المذكور، فما كان من صاحب المحل ودون أن يعرف وظيفة الدوري أن يخاطبه: أستاذ هذه إذاعة كاولية، ويبدو أن مديرها كاولي، وما كان من الدوري إلّا أن أيّده وغادر المحل وهو يضحك في سرّه.

ويروي عبد الستار الدوري عن شخصية شعبية "دوريّة" أنه كان شديد الاعتزاز بمنطقة "الدور"، ودائمًا ما يشيد بنجاحات أهلها وتقدّمهم، حيث يعدّد الشخصيات البارزة فيها مثل المؤرّخ والعلّامة عبد العزيز الدوري، رئيس جامعة بغداد، والمحامي الكبير محسن الدوري، وبعد تفكير طويل يقول "المضمّد ياسين" ويستغرق "أبا لادا" بالضحك حتى تدمع عينيه.

وكنت أتساءل مع نفسي: كيف كان ردّ الفعل من النظام حول تسرّب خبر اختيار الدوري  عضوًا في القيادة القومية (السورية)؟ وهو ما عرفته في وقت لاحق، حيث كان صدّام حسين، نائب الرئيس حينها، قد استشاط غضبًا، خصوصًا بتأخر عودة الدوري إلى بغداد، لكنّ ما خفّف من حنقه هو تطمينات كان قد سمعها من  منذر الونداوي، الذي كان سفيرًا في رومانيا،  وكان الدوري في ضيافته في بوخارست، حين انعقد المؤتمر القومي في دمشق، وهو ما أكّده لي الونداوي خلال لقائي به في لندن في أواسط التسعينيات، وكان تعليق الدوري، وهو يقهقه: "مكتوب لنا أن نعيش لنرى..!".

قلق وجودي ومعرفي

لم يفرّط الدوري بانتمائه العروبي، لكنه كان أقرب إلى فكر اليسار، وعروبته لم تمنع من صداقاته مع الكرد، لا سيّما مع جلال الطالباني ومحسن دزئي ولطيف رشيد وهوشيار الزيباري وآخرين، وكان مؤمناً بحقوق الكرد القوميّة، بما فيه حقّهم في تقرير المصير.

كان الدوري مواظباً على القراءة وهو دائم النقد، سواء للقضايا الثقافيّة أو الفكريّة أو السياسيّة، فضلاً عن ذلك فهو يستمتع بقراءة الشِّعر. ويذكر الروائي عبد الرحمن منيف وهو صديق الدوري أنهما حين عاشا في باريس لبضعة أشهر كيف كان الدوري يقرأ قصائد الغزل وكيف يحاول أن يمسرحها، كما كانت لديه صداقة مع الشخصيّة الموريتانيّة الثقافيّة الموسوعيّة الباهي محمّد الذي عاش مع الثورة الجزائريّة مثلما عاش مع المقاومة الفلسطينية، وانخرط في أنشطتها، كما أقام في العراق وسوريا والمغرب، وجابَ الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، وعرَفَ خبايا باريس وخفاياها، وتوفّي فيها. وكان عبد الرحمن منيف قد كتب نصًّا جميلاً عنه بعنوان "عروة الزمان - الباهي"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997.

بقدر ما كان عبد الستّار الدُّوري مؤمناً بالعروبة وبأفكار حزب البعث الأولى، فإنّه عاش قلقاً فكريًّا رافقه طيلة حياته، وهو ما عرفته على نحو أكبر في العقود الثلاثة الأخيرة، فبقدر ما اقترب من اليسار فإنّه كان ناقداً له، وبقدر ما آمن بمُثُل الحرّيّة، إلّا أنّه كان ناقداً لليبراليّة، لاسيّما المتوحّشة، وبقدر تمسّكه بالحداثة، فقد كان ضدّ التعصّب والطائفية، وفي كلّ مواقفه كان ضدّ الصهيونية.

ربّما هّويّته الثقافيّة النقديّة طغت على تفكيره واعتمدها أسلوباً في التعاطي مع الظواهر السياسيّة، لذلك وصفته أنّه سياسي عصيٌّ على التصنيف، فقد وجدت فيه الكثير من المتناقضات المتجاورة، وكأنه في حالة جدل بينه وبين نفسه، يختلف ويتّفق معها في إطار القلق المعرفي والوجودي، الذي ظلّ يسكنه. ويعود ذلك في جزء كبير منه الى ثقل الانتماء الأيديولوجي الشمولي التوتاليتاري الذي ظلَّ ينفر منه، ناهيك عن غياب اليقين والطمأنينة، وذلك جزء من الشك الديكارتي بحثًا عن الحقيقة.

نشرت في جريدة الزمان (العراقية) في 7 أيلول / سبتمبر 2024.

اخر الأخبار