غريب عسقلاني باقٍ في ذاكرتنا

تابعنا على:   12:30 2023-06-21

نعمان فيصل

أمد/ كثير من الناس يمشون ويأكلون ويتكلمون، لكنهم كالموتى، لأن انشغالاتهم في حياتهم لا تتجاوز حدودهم وحدود عيالهم. وكثيرون هم الذين تحت التراب، ولكنهم أحياء في ذاكرتنا وفي ضمائرنا وقلوبنا، ومن هؤلاء غريب عسقلاني الكاتب الفذ وصاحب القلم الملتزم بهموم الناس وأحلامهم.

وتنهض الأمم والأوطان وترقى بالموهوبين والمبدعين من طراز غريب عسقلاني، لأنهم يوظفون مواهبهم وقدراتهم كي يصبح الناس أكثر وعياً ونضجاً وأعمق انتماء، والكتّاب الكبار من طبقة غريب عسقلاني يعيشون ويمضون وعيونهم تتجه نحو عقول الناس وقلوبهم، ويسعون لتكون حياتهم زاخرة بالكرامة والحرية والعدل والإبداع، في المقابل فإن كثيراً من الانتهازيين والتجار يعيشون ويمضون وعيونهم مصوّبة نحو جيوب الناس.

وأخطر التجار هم الذين لا يتاجرون في بضائع وخدمات، وإنما يتاجرون في أوجاع الناس وهمومهم.

تغذت شخصية غريب عسقلاني من حرصه ليبقى إنساناً لم يرتكس إلى مستوى الدواب، ولا إلى مستوى السباع المفترسة، فالمواطن قبل أن يصنف زعيماً وأميراً وقائداً وداعية ومناضلاً وثائراً يجدر به أن يظل إنساناً في تفكيره وسلوكه ومواقفه، ورحم الله الشاعر أبو الفتح البستي القائل:

أقبِلْ على النفسِ واستكمِلْ فضائلَها

                    فأنتَ بالنفس لا بالجسمِ إنسانُ

اقتربت من غريب عسقلاني في سنيه الأخيرة، فلم أجد فيه ذلك الكاتب المبدع المرموق فقط، وإنما وجدت فيه إنساناً طيباً صالحاً ودوداً زاهداً بالدنيا ورتبها ومتاعها وألقابها، لذلك لم تتمكن أي من قوانا السياسية من احتوائه وقولبته، لأنه تمسك أن يبقى قلمه وتبقى كلماته في خدمة الأفق الوطني العام، ومن الجميع وبالجميع وللجميع، ومسار غريب عسقلاني ليس من باب مسك العصا من الوسط، وإنما من باب إيمانه العميق بأن الوطن والناس هم أهم وأبقى من كل الساسة مهما كان صلاحهم وإخلاصهم.

لغريب عسقلاني فضل على النهضة الأدبية في قطاع غزة، فقد اتخذ من نشر الأدب ورعايته غاية حياته، وفيه تتجلى روح المعلم الذي ظهرت براعته وأهدافه، المعلم الذي يغذي الأدباء بفيض من الأفكار وفيض من الإلهام، والمعلم الذي يهديهم إلى الصلاح، وينمي فيهم القدرة على النضج والاكتمال، وتعميم الفائدة وبث المنفعة لمن يبتغيها منهم، يبين لهم الرشاد من الفساد، والثمين من الغث، والصحيح من الزائف بالحكمة والحجة، وعلى نهجه كتب الكثيرون وأبدع الكتّاب، وكأنه كان يريد لكل أديب أن يكون (غريب عسقلاني) آخر.

وكان للأدب مجالس كثيرة في غزة، يؤمها باقات من الكُتّاب والشعراء، يجتمعون فيها، وكان أصحاب هذه المجالس يحرصون كل الحرص على أن يكون غريب عسقلاني من روّادها، وطالما أتحف الحاضرين بشتى الأفكار ومختلف الآراء، وبعض النوادر الأدبية الطريفة، وبرحيله شعرنا بفراغ كبير كان يملؤه بلون اختص به، وترك لنا حزناً غشي المجالس التي ارتادها، والمحافل التي كان يغشاها، طالما اتصف حديثه بالعذوبة، ونفسه بالشموخ، هذه النفس الكبيرة لم يصبها الأسى بالعقد والاستكبار، وظلت على سجيتها تسيطر عليها روح المعلم الذي ينشد الصلاح ويرجو الخير للجميع؛ لأنه فلسطيني صميم يدافع عن قضية مقدسة يترجم أمانيها، ويذود عن حقوقها وكرامة شعبها، يعيش مع الشعب، ويعبر عن آلامه، ويفصح عن آماله، فكان أدبه قبسة من أمانينا، وجذوة من مشاعرنا، وما يختلج فينا من آمال كبار، ودعوة إلى التحرر، ورغبة في الخلاص من أسر الاحتلال والانقسام، فكانت معظم سني حياته سلسلة من المحن والمكاره صبر عليها صبر أولي العزم من الكرام المناضلين، مؤمناً بأن الزمن كفيل بتحقيق ما يعز تحقيقه من آمال الفلسطينيين في الحرية والاستقلال.

غريب عسقلاني من طراز فريد، قام منهجه على الدراسة والفكر وإمعان النظر بالإضافة لكونه طاقة هائلة من الجلد والمثابرة تميز بهما منذ صغره، وهي قدرة تقوم في العادة على ذكاء أصيل وإدراك واسع، فلم يكن التعصب يعرف إلى أدبه سبيلاً، إنما كان متحرراً في أفكاره ومعانيه، ولم يستطع التطاحن الحزبي أن يجرفه إلى دوامته، فينحرف قلمه ليصبح بوقاً لهذه الجهة أو تلك، إنما كان صديق الجميع، وكان الجميع يجدون فيه الصديق الوفي، والأخ الكريم، والزميل الحميم، ولم نجد في أسلوبه اسفافاً كهذا الاسفاف الذي انتشر في كتابات الكتّاب الحزبيين الذين ارتووا من خمر الحزبية حتى الثمالة.

ظل غريب عسقلاني وفياً لمبادئه حفياً بأصدقائه معتزاً بانتمائه إليهم، حتى غدا عميد الأدباء بلا منازع، ومثالاً حياً للشجاعة والصدق والترفع عن الصغائر والتنزه عن الأحقاد الشخصية والخصومات الجارحة، لم يستهوه مال أو منصب، ومن هنا كانت قيمته كأديب وطني وأخلاقي.

لقد ترك غريب عسقلاني لنا صفحات باهرة الضياء عبر الأيام، وذخيرة من أنفس ذخائر العربية بما تحفظ في قلوبنا من ذكريات طيبة، هيهات أن يسدل عليها ستار النسيان.

كلمات دلالية

اخر الأخبار