نابلس: ما بين البرج والسرايا..وعشرات الأمتار

تابعنا على:   12:58 2021-10-02

تحسين يقين

أمد/ مساحة صغيرة محدودة، لكن مداها غير محدود، أكان في ملامسة أطرافه العلوية للسماء، أم في تجاور البنايات كأنها عناصر لوحة.

هي كذلك البلدات القديمة، لا نستطيع عزل مكوناتها، فكأنها خلقت معا كقصيدة أو لوحة، وما أن تلامس أبصارنا حتى نكاد ندخل مئات السنين، وربما أكثر، فبمجرد ملاحظة الأسلوب المعماري، يظهر الزمن طازجا، ويظهر التاريخ الذي جمع مدن فلسطين القديمة: القدس ونابلس والخليل ويافا وغيرها، ومدن الشام ومصر المحروسة، فلا نستطيع فعلا عزل المكان هنا عن تلك البلدات هناك الذي جمعها زمن جميل ومبدع.

لذلك، سنطيل النظر طويلا في المكان، مبحرين في التاريخ، نبني عوالم، نعيد تكوينها كما كانت، بالاستفادة من الدراما التاريخية، وصولا لليوم..الآن.

لم يعد بإمكاني التجول طويلا، إذ كيف سأمر على هذه المكونات المعمارية، دون أن أقف طويلا عند كل أثر معمارري، من مسجد قديم كبير الى سبيل ماء صغير!

أتجول قليلا، ثم أجلس في ساحة النصر-المنارة، لأتأمل ما حولي وفوق رأسي، بعد مرور قصير داخل البلدة القديمة، وما يهب فيها من نسائم باردة، وما يتكون من لوحات إبداعية عمادها: الظل والنور..

ارتقي بنظري الى أعلى برج الساعة وصولا لزرقة السماء، وأهبط الى أرضها، فأكتشف ما لم أره من قبل: تلك البلكونات على الجهات الأربع. كيف لم أرها في المرات السابقة؟ هل كان لسمو البرج أثر في أسر العينين بين السماء والأرض.

أنظر نحو الساعة، كأنها معطلة، إنها الثانية، ونحن بعد العصر..أتفحص مكونات البرج: القاعدة، وقد استخدم من قبل كمركز للبوليس العثماني، يعلوه طابق له شبابيك عالية بأقواس (حنونة)، يتلوه طابق تنطلق منه في الخارج أربعة بلكونات، يعلوه طابق الساعة، وصولا لقمته، وقد أخذ البرج شكل المخروط، أي كلما ارتفعنا يصير مكعب الطابق أصغر حجما. ولا شك أنه آية معمارية غاية في الجمال والإيحاء.

لقد أنشئ برج الساعة عام 1901، في ذكرة اليوبيل الفضي لجلوس السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وقد أنشئت بضع أبراج في هذه المناسبة في القدس ويافا أيضا.

في كل زيارة أقترب من بلاطة التاريخ، لأصورها، حتى أنقل الأربعة أبيات الشعرية، لكن هذه المرة كتبتها:

مآثر الخير بعيد الجلوس أشرقت الدنيا بهجا كالشموس

كان من جملتها ذا البنا لساعة قد جليت كالعروس

فليحيى سلطان الورى غوثنا عبد الحميد الفرد تاج الرؤوس

في عيده الفضي قد أنشئت ذكرى ليوم فيه طيب النفوس

قد يكون هذا النص الشعري مقتبسا من قصيدة مادحة للسلطان، تنتمي للشعر في العصر العثماني المتأخر، الذي كتب لتحقيق غرض معين. ويمكن هنا ملاحظة الأسلوب التقليدي المتكلف، والذي لم يسلم بالطبع من لحن هنا وهناك، وهو متأثر أيضا بالسياق اللغوي في ذلك العهد.

مدح تقليدي، استخدم تشبيهات قديمة، يجمها السجع والقافية. لكنه الآن صار له أهمية توثيقية، تفوق الأهمية الإبداعية، وهو على كل حال شعر جميل بمقياس ذلك الزمن. المهم هو أن السلطان قد قضى في الحكم 25 عاما.

 

في ساحة الساعة، انظر تجاه اليمين، أقرأ يافطة كتب عليها قبور إسلامية باللغتين العبرية والعربية، قربها سبيل ماء ما زال يمنح ماءه للزوار. وحين أسال شيخا يسير برشاقة، يخبرني بأن سبب ذلك، هو لتنبيه جنود الاحتلال حينما يقتحمون المدينة، فلا يكسرون الباب. ثم ليسرد لي ذلك الشيخ الجميل الذي يغادر السبيعينيات من عمره تاريخ حياة أسرته في يافا، واللجوء الى نابلس للبدء من جديد. فألتقط قصة ذلك الطفل من بدء النكبة حتى الآن، حتى أنه حينما رأى بيتهم هناك بعد عام 1967، عرفه بسبب قربه من المقهى الذي اعتاد جده الجلوس عليه، وهو متابع لذلك المكان، حيث عرف أن هناك مدرسة قديمة قد تم هدمها بسبب عدم الاهتمام بها. تحدث بسردية مشوقة عن طفولته في نابلس، وتنقله بين المهن. يستأذن الشيخ، تاركنا ما بين يافا ونابلس. من هنا طريق للسوق فيه محلات ما انقطع حضورها على مدار 600 عام، تعود للعصرين المملوكي والأيوبي، متوقفا قليلا عند مبنى السرايا العثمانية، راسما مشاهد ما، بالعودة الى التاريخ القريب، وهناك أمامنا طريق لحارة،  وهناك طريق أخرى أخطو قليلا فيها، أقف عند مدخل حوش الجيطان، يخرج من بابها شاب مطمئن الوجه، بدراجة هوائية، عليها ربطات خبز. نندمج في حديث عن المكان، ليتحدث الشاب فهمي سليم بحنين عن الأماكن، وصولا للتحولات التي تمر وما زالت تمرّ على نابلس القديمة والجديدة. يهبني هدية من خبزه الجميل ويمضي على أمل أن تجمعنا نابلس يوما يبدأ مبكرا من الفجر أو ما قبله، بما ينسجم مع فرن الخبز.

هبط المساء، فأذن للمغرب، فصعدنا الى مسجد النصر، كنت أظنه أكثر اتساعا،  وهو مسجد تهدم غي زلزال عام 1927، وأعيد بناؤه عام 1935، أي استغرق البناء حوالي 8 سنوات، وهذا كثير على مدينة عريقة. والمسجد يحتوي على مصلى للنساء.

 هنا تستطيع التمييز بين أهل المدينة والزوار من خلال حركات القادمين، يؤم المصلين شاب صغير،  ليعود الناس لساحة النصر، لنتأمل سحنات بعضنا بعضا، التي فيها من الشجن ما فيها، لكن الأطفال يبدعون البهجة هنا. هنا بضع عائلات تناولت القهوة، وأخرى الكنافة على الفحم، يعدها ببساطة شاب تعلم صنعها، فصار له مكان يعرف به عند قاعدة برج الساعة.

ولعل الكنافة مشهورة بنابلس وهي مشهورة بها، كذلك الصابون، الذي بلا شك قد سارع صناعته قديما مئات آلاف أشجار الزيتون في تلك الجبال..وربما وصلت الملايين.

بضع خطوات ما بين مسجد النصر وسبيل الماء، والبرج، والسرايا، لكن ما انتهينا من التاريخ، فكأننا إنما نحن نطل قليلا. سنشرب القهوة وأعيننا تتحص المكان.

هناك يمرّ النوابلسة، ويجلسون على المقاهي القريبة، كم هم في كامل الانسجام مع بلتهم الجميلة، وكم هي البلدة القديمة وادعة جميلة كريمة.

هبط الليل أكثر، فتركنا المكان لأهله، فإنما نحن زوار، ولكن لم نترك القراءة والتأمل؛ ففي كل مرة نغادر نابلس نقول: لن نطيل التأخر عنها، فقريبا سنعود.

إنها عراقة المعمار تنادينا من أعماقنا، لعل هذا النداء يظل حارا، فيلبي أهل البلد والوطن النداء، فلنا هنا تاريخ جميل ومكان يزداد جمالا.

-       علم وفن معا؟

-       وروح..!

هي كذلك، ولعل بعض القراءة والسؤال، نجد أن العمران عام، والمعمار خاص، يتلون بروح البلاد وثقافاتها، ويخلد بها.

ألقي النظر على برج الساعة والسرايا..أقترب من لوحة تاريخ البناء فأقرأ ثانية أبيات المدح، فأجد أن المدينة الجميلة تستحق المدح والفخر والتغزل بها أيضا.

عراقة وتاريخ، وحاضر ومستقبل، هنا وفي أرض أخرى وأثر وآثار تشعر أن هذه البلاد أقوى كثيرا، بها نقوى، ونستمد الأمل.

اخر الأخبار